الفصل9

كانَ الخمرُ العَتِيقُ يسيلُ في حَلقِه كخَطِّ نارٍ مُتَّقِدٍ.

فضحك سُهيلُ الغامضُ وقال مُبادِرًا: "رويدَك أيّها الفتى، أَهكذا يُشرَب؟"

"أفسدتَ لذّةَ الرحيق، وجعلتَه شرابَ صَعْلُوك!"

سعلَ وقال: "لم أظنُّ هذا الشّرابَ لاذعًا إلى هذا الحدّ!"

وبعد حينٍ أفاق الفتى قليلًا، والتقط لقمتين وقال: "يا جدّي، ماذا أصنعُ إذا هبطتُ من الجبل؟"

فنقرَ سُهيلٌ رأسَه بالعصوينِ وتبسّم.

"لقد بلغتَ ذُرَى تهذيب النَّفَس."

"والخُطوةُ التاليةُ أن تُدخِل قُوَى السّماء والأرض فيك، فتبلغَ طورَ التهذيب."

"وحين تُقارِنُ ذلك بعينِ قلبِك، تصيرُ كصاحبِ عينينِ تُبصِرانِ سواء."

ودارتْ عيناه الشاحبتانِ، وطلعَ على فِيه بَشَاشَةُ أملٍ.

وقال الشيخُ مُتابعًا: "قد بلغتَ أربعَ عشرةَ سنةً، وهي سِنُّ الانتماءِ إلى الطائفة، فقد آنَ هُبوطُكَ من الجبل."

وكان عبدُ الرقيب منذُ صِباه يشتاقُ أن يُزكّي نفسَه.

ليكونَ ممّن يَعلو ويهبطُ، ويطيرُ بالسيفِ في السّماء.

غيرَ أنّه عاش مع سُهيلٍ ثمانَ سنينَ طيّباتٍ، فما ظنَّ الفُرقةَ تدنو بهذه السُّرعة.

وقال خافتًا وهو يلتقطُ لقمةً: "الطوائفُ في الدّنيا لا تُحصى؛ بل في صعيدِ السّحابةِ الزُّرقى طوائفُ قويّةٌ لا تُعدّ."

"فأيَّ طائفةٍ ألتحِقُ بها؟"

وظنَّ أنّ الشيخَ سيُطيلُ الفكرَ، فإذا به يقولُ من فَورِه.

"طائفةُ سيفِ الصَّيفِ الأكبر!"

فعَقَدَ الفتى ما بينَ حاجِبَيْه، وقد سمعَ من أسرارِ هذه النواحي كثيرًا.

ولكنّه لم يسمعْ بطائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر في صعيدِ السّحابةِ الزُّرقى.

فقال سُهيلٌ مُطمئنًّا: "لا تُفكّر؛ ليستْ من العِظام، ولكنّها طائفةٌ مستقيمةُ السِّيرَة!"

ثم جلسا في الفِناء يُسامِرانِ ويشرَبان.

غيرَ أنّ طاقةَ الغلامِ على الشّرابِ ضعيفةٌ، فما شربَ كأسينِ حتى ثَمِل.

وهو يتمتِم: "وما الذي يُستحسَنُ في هذا؟"

وضحكَ الشيخُ إلى الغلامِ الثّمِل وقال: "ستعلمُ بعدَ اليومِ حُسنَ الرّاحِ، يا فتى!"

ثم خلعَ رداءَه فألقاه عليه.

ولوّحَ بيده، فأرسل ثلاثَ أشعّةٍ من نورٍ روحيٍّ في ذلك الكفنِ المسلولِ الأسود، وحدّق فيه طويلًا.

ثم خطا خطوةً فطوى الأرضَ أميالًا، ومَضى مُحلِّقًا في الفضاء.

وأفاق الغلامُ مُتلبّسًا بالنّعاس، فلم يجدْ أثرَ الشيخِ، ولم يتعجّب كثيرًا.

ولمّا رأى الخريطةَ التي خلّفها سُهيلٌ على المائدة، طفرتِ الدموعُ من عينيه.

وأخذَ الخريطةَ وقال مُرًّا: "يا جدّي… هلاّ تركتَ لي نَفَقَةَ السّفر!"

فما كانَ له إلّا أن يحملَ كلَّ مأكولٍ في البيت.

وحمَلَ وراءَه الكفنَ المسلولَ الحجريَّ العظيم، وأمامَه خرجًا ضخمًا.

إزٍّ…

وأغلقَ البابَ بحَذرٍ، ولبثَ طويلًا ساكتًا، ثم قامَ قاصدًا سُفوحَ الجبل.

وأرادَ أن يمرَّ على بيتِ العمّة لُبابَة ليرى الصغيرة، فرأى دار آل الودوديّ مُوصَدةً، فلم يَقرَعْ.

وحكّ رأسَه وقال مُتماوتًا: "يا للعَجَبِ، لقد سِرتُ ثلاثةَ أشهرٍ كاملاتٍ."

وكان كلّما اجتازَ مدينةً أو قريةً سمعَ بأخبارِ طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر.

ومُجملُ القول أنّها طائفةٌ صالحةُ السِّيرة، تُحسنُ تدبيرَ ما حولها مَسَافَة آلاف كيلومتر، فلا يكادُ يُرى فيها بَلاء.

"ويبدو أنّها كما قالَ جدّي، طائفةٌ مُستقيمةُ الباب."

وبعدَ ثلاثةِ أيّامٍ بلغَ أسفلَ جبلِ طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر.

وتعالتْ في الزّحامِ أنَّاتُ التّذمّر.

لأنّ أمامَهم سُلَّمَ السّماءِ الذي تُسمّيه الطائفةُ "طريقَ قاطعِ الغُبار!