مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى

مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى

By:  اليمامة المباركةUpdated just now
Language: Arab
goodnovel4goodnovel
Not enough ratings
100Chapters
223views
Read
Add to library

Share:  

Report
Overview
Catalog
SCAN CODE TO READ ON APP

سِمات: بلا نظام، نبوغ مذهب السيف، حميّة دفّاقة، حزم في السطوة والقتل. استُنزفت الأخت حتى قضت، والأمُّ سقيمة، وعمٌّ مقامر خؤون طَمِع في مال الفداء الذي فُديت به الأخت. فشهر عبد الرقيب الليثي السِّكّين فصرع الرجل، حتى ساقه القدر إلى شيخ يُدعى سهيل الغامض. وبعد ثماني سنين غدا الفتى حاملًا للسيف على ظهره؛ وليس الذي وراءه صندوق السيف، بل الكفن المسلول — كفنُ دفنِ السيوف. ومن ثَمَّ وطِئ صاحبُ الهِمّة العلياء عتبةَ عالم التزكية والقوى الخفية، حيث ريحٌ زَفِرةٌ ومطرُ دماء.

View More

Chapter 1

الفصل1

إقليم الصَّيْف الأكبر، صعيد السَّحابة الزُّرقى، بلدة الصَّرْد الشَّمالي.

غلامٌ في السادسةِ أو السابعةِ يتقرفصُ عند سِبْعٍ حجريٍّ بإزاء الباب الخلفيّ من دار آل زاهر.

في صقيع الثلج يلبسُ قميصًا غيرَ ملائمٍ لجسدٍ ناحلٍ فيرتجفُ كالسُّنبلة.

والأعجبُ أنّ عينيه معصوبتانِ بخرقةٍ سوداء.

تُبرزُ الخرقةُ حاجبَيْنِ كسيوفٍ وأنفًا أشمَّ وشفتينِ رقيقتين.

وخدّاهُ محدّدانِ أشدَّ التحديد.

قعقعةٌ…

انفتح البابُ الخلفيُّ لدارِ آلِ زاهر ثم أعقبهُ وقعٌ مُثْقَل.

طَخ!

طُرِحت جثّةٌ يابسةٌ من البابِ إلى الخارج.

فسقط الجسدُ الضامرُ على الأرض فثلمَ الثلجَ ثَلْمًا ضحلًا.

تردّد زُهَيْرُ خادمُ الدارِ في فروٍ سميكٍ ولمعتْ في عينهِ شفقةٌ يسيرة.

ألقى أربع مائة فلس إلى الأرضِ وردَّ ما بقي في كُمّه.

طَقّ!

فلمّا سمعَ الفتى نهضَ ونفضَ الثلجَ عن ثوبه وأخرج على وجهه الأزرقِ بسمةً وادعةً وقال: "أزُهَيْرُ أنت؟ أأُلقيتَ آنفًا فضلاتِ المائدةِ من الدار؟"

ثم قرفصَ وجعلتْ كفّاهُ المحمرّتانِ تتحسّسانِ الثلجَ على عَجَلٍ.

وظلّتِ البسمةُ على وجهه حتى لمسَ جثّةً باردةً تنفذُ قَرَّها إلى العظم!

جمدتْ يدُ عبدِ الرقيبِ في الهواءِ وارتجفتْ شفتُه واضطربَ جِسمُه.

ثم ركعَ قليلًا ومدّ يديه المرتعشتينِ إلى وجهِ الجثّةِ يلمسانِه.

فلمّا مسَّ ذَقنَ الفتاةِ ارتدّت يدُه كالمصعوقة!

لقد لمسَ أثرَ جرحٍ طويلٍ خلّفه عمٌّ سكرانُ مقامرٌ ضربَ أختَه قبل عامين.

"يا أختاه…"

وانطلق من فيهِ نحيبٌ خافتٌ فيهِ كمدٌ وحُرقة.

وزالتِ البسمةُ وانهمرَ الدمعُ لا يُمسَك.

ثم نزعَ مِرطَه البالي الوحيدَ ولفَّ به الجسدَ غيرَ مُكترثٍ بحدِّ الريح!

وانكشفَ على الجسدِ النحيلِ آثارُ عَضٍّ وجراحٍ وزرقةٌ على الظهرِ لم تخبُ.

ومدَّ يدًا مشقّقةً بالصَّرْدِ فمسَّ شعرَ الفتاةِ برِفق.

وأطرقَ برأسهِ وقالَ بصوتٍ مبحوحٍ: "الموتُ راحةٌ، وأمّا الحياةُ… فعذاب."

ثم قلّبَ الثلجَ طويلًا حتى لم يجدْ إلا أربع مائة فلس.

أربع مائة فلس!

فاستعرَ في صدرهِ غضبٌ جارفٌ كأنّهُ يُشَقِّقُ حَشَاه!

أنبعدَ الموتِ لا تُحفظُ لأختِه آخرُ كرامتِها…

أموالُ الميّتِ يُنتهَبُ هكذا سهلًا؟!

هبّتْ نَسْمةٌ باردةٌ فشدَّ زُهَيْرُ كُمَّه وقال ناصحًا وهو ينظرُ إلى الفتى: "نحِسَتْ نجمةُ أختِك؛ خُذِ المالَ وانصرفْ، لا تَمُتْ قَرًّا ههنا."

فنزعَ الفتى العصابةَ عن عينيه فكشفتْ عن حدقتينِ شاحبتين.

ورفعَ رأسَه إلى الصوتِ مكظِمًا غيظه.

ثم اضطربَ صوتُه قليلًا ومدَّ يمينه وقال همسًا: "مات خادمٌ ظلمًا، وعلى أهلِ الدارِ فداءُ ألف فلس!"

"هذا المالُ… آخرُ كرامةٍ لأختي، لا يَحِلُّ لكَ أخذُه!"

فقبضَ زُهَيْرُ كُمَّيهِ فلمّا سمعَ ذِكرَ المالِ انطفأتْ شفقته.

وقال بوجهٍ جامدٍ: "يا أعمى، هذه أربع مائة فلس؛ خُذْها أو دَعْها! ابتعِدْ."

ثم استدارَ ليُغلقَ الباب.

وتجهّمَ عبدُ الرقيبِ وطلعَ بأسٌ على محيّاه!

فوثبَ إلى الدَّرَجِ وقبضَ يدَ الرجلِ وصاحَ: "آتِني الذي وَجَب!"

فلمّا رأى زُهَيْرُ تلكَ اليدَ المقرّحةَ تمسكُه عقدَ حاجبَيْه.

ولمعتْ في عينهِ شرارةُ بطشٍ فقبضَ شعرَ الغلامِ ورمى به عن الدَّرَج.

طَخ!

ارتمى الجسدُ النحيلُ على الثلجِ وفوقه صفائحُ حجرٍ صُلب.

فالوقوعُ عليه يُزرقُّ منهُ الجسدُ فكيف بمن قُذِفَ مسافةً؟

نظرَ زُهَيْرُ بوجهٍ باردٍ إلى الغلامِ المطروحِ وقالَ شرًّا: "يا أعمى، خُذِ الجثّةَ وانصرفْ عاجلًا!"

"ولولا رأفتي ما أعطيتُكَ أربع مائة فلس!"

"فِتْ!"

وإذ انثنى ليرجعَ إذا بذيلِه يُجذَبُ فجأةً.

فالتفتَ فرأى الغلامَ من ورائهِ قابضًا ذيلَه بكلتا يديه.

"آتِ المالَ!"

"ذاكَ فداءُ حياةِ أختي!"

وثبَ الغضبُ في صدرِ زُهَيْرَ وكادَ يبطشُ ثمّ حدّقَ في تلكَ العينينِ الشاحبتينِ المَحقونتينِ دَمًا.

ومع أنّهما لا تُبصرانِ أحسَّ كأنّهما تُصوّبانِ النظرَ إليه.

فسرى في قلبهِ بردٌ ثم رمقَ الجثّةَ التي أهلكها الجوعُ والنَّصَب.

فرقَّ قلبُه ودسَّ ما بقي من الأفلاسِ في كفِّ الغلامِ وقال: "خُذْه، يا للنَّحس!"

وأرخى الفتى يدَهُ يعدُّ القطعَ فتورًا.

طَخ!

أُطْبِقَ بابُ الدارِ وسمعَ من الداخلِ صوتًا فَتِيًّا.

"يا زُهَيْرُ، ما بالك؟ أعلفْ طيورَ مولانا عاجلًا!"

"مولانا بُرهان، إليكَ، إليكَ."

"أين كنتَ آنفًا؟"

"……"

"أما ماتت جاريةٌ؟ أمرٌ حقيرٌ؛ أعجِلْ بذلك الأعمى ليبتعد!"

وظلَّ عبدُ الرقيبِ شاخصًا إلى السماءِ وهو قابضٌ على الأفلاسِ جالسًا على الدَّرَجِ طويلًا.

ثم نزلَ الدَّرَجَ وحملَ الجثّةَ الجامدةَ على ظهرهِ ومضى.

قَرْقَر… قَرْقَر…

ذاكَ صريرُ قدمَيْهِ على الثلجِ بطيئًا مُتَمايلًا.

وهذه الحالُ رآها شيخٌ من خانٍ على بُعدِ أذرُعٍ كثيرة.

كان الشيخُ في رداءٍ رماديٍّ بسيطٍ وقد ابيضّتْ لحيتهُ وشعرُه.

أنفُه أشمُّ وشفتاه رقيقتانِ لا قسوةَ فيهما وبين عينيهِ صفاءٌ لا وَهْنَ عليه.

وعلى مائدتهِ أطعمةٌ يسيرةٌ وإبريقُ نبيذٍ دافئ.

فلمّا رأى الغلامَ يتحسّسُ الجدارَ ماشيًا توقّفتْ يدُهُ الحاملةُ للكأس.

ولاحتْ في عينيهِ لمعةٌ خفيّةٌ وقال مُخافتًا: "عجبًا! طلبتُ هذا الغرسَ قرونًا فإذا هو صبيٌّ أعمى…"

"دعوا الأمرَ؛ لعلّهُ قَدَر."

ثم نهضَ الشيخُ وقالَ بصوتٍ رخيمٍ: "يا غلامُ، الحساب."

وكان الشتاءُ في أَشُدّهِ والريحُ كالسكاكينِ على وجهِ الحدث.

فاستراحَ مرّاتٍ في الطريقِ حتى إذا أرخى الليلُ ستْرَه وضعَ الجثّةَ عند بابِ دارِ الشفاءِ.

وكان الشيخُ الرماديُّ تحيدُ عنهُ الرّيحُ والثّلجُ كأنّ له حِرزًا.

"لقد ماتتْ ودخلتِ الأرواحُ والأنفاسُ في دورِ العَوْدِ؛ فماذا في دارِ الشفاءِ؟"

"آخذُ دواءً لأمّي… ليس لها…"

ثم لم يلبثْ أن خرجَ وفي يدهِ أعشابٌ فحملَ الجثّةَ ثانيةً ومضى.

ثم أتى دكّانًا مُعلّقًا على بابهِ سُتورٌ بيض.

وبعد حينٍ خرجَ وفي يدهِ جرّةٌ.

وعليها رقعةٌ مثبتة.

"روّاءُ الليثيّة."

فلفَّها في ثوبِها الورديِّ ووجهُه ساكنٌ لا يتحرّك.

وفي الطريقِ التقطَ من بابِ المخبزِ قرصَيْنِ جامدَيْنِ كالحجرِ فابتسم.

فازدادَ الشيخُ الذي يتبعهُ عجبًا: كيف لم يَجْزَعْ لأختِه ثم يبتسمُ لقرصينِ منبوذَيْن؟

وإنما تشبّثَ بأن يستوفيَ ممّا انتقصهُ خادمُ الدارِ من الأفلاسِ.

فاستبدَّ بهِ الفضولُ فاتّبعَه.

فجأةً!

توقّف الشيخُ في العاصفةِ ورفع طرفَه إلى السماءِ.

وقال همسًا: "هَهْ، ما هدمتُ إلا طائفةً منذ قريب، أفيأتي حامي المملكةِ العائِفُ بنفسِه؟"

"وجنينُ الروحِ صغيرٌ… رؤيتُه حسنةٌ لِنُريحَ الطرفَيْن."

خَطْفَة!

خطا الشيخُ خطوةً فطوى مئات الأذرع في لحظةٍ ونزلَ سقيفةً برّيّة.

وكان شيخٌ مُوَشّى الحُلّةِ قد سخّنَ الخمرَ وأصلحَ الشاي كأنّهُ ينتظر.

فلمّا رآه قامَ يجلّهُ وقال: "سلامٌ على السيّدِ الجليل…"

وجنوبَ بلدةِ الصَّرْدِ الشماليّ دارٌ خَرِبةٌ لا يُسَدُّ بابُها.

وقفَ الفتى طويلًا على العتبةِ ثم تنفّسَ عميقًا ودفعَ البابَ ودخل.

قعقعةٌ…

الحجرةُ مُظلمةٌ لا سراجَ فيها والبيتُ عارٍ وقرطاسُ النوافذِ مثقّبٌ لا مالَ لرَقْعِه.

وتحرّكتْ هيئةٌ على السريرِ الطينيِّ ثم جاء صوتٌ ضعيفٌ رويدًا.

"أعُدتَ يا عبدَ الرقيب؟"

كان صوتُ المرأةِ رقيقًا ولكنهُ واهٍ شديدُ الوهن.

وهي بَانَة بنتُ صفوانَ أمُّ عبدِ الرقيب.

قامت نحيلةَ الوجهِ غائرةَ الخدّين غير أنّ نظرَها إلى ابنِها مفعمٌ حنانًا.

وتلمّستْ بضوءِ القمرِ وقالتْ خافتًا: "وأين روّاء؟"

فجمدَ الفتى وهو يفتّشُ عن الشمعةِ ثم أوقدَها فأضاءتْ جرّةٌ وحْدَها بجانبه.

وأعرضَ بوجههِ وقالَ مغصَبَ الصوت: "روّاءُ… ماتت، وقد فَدَتْها الدارُ بألف فلس."

"قد استرددتُ المالَ وأخفيتُه لدوائِك."

ثم أخرجَ من صدرِه قرصًا لانَ بحرارةِ الجسدِ فناولها.

وأخذَ الأعشابَ إلى المطبخِ وقال مبحوحًا: "أغلي لكِ الدواء."

فجذبتْ بَانَة بنت صَفوان يدَه وردّتِ القرصَ إلى كفِّه وقالتْ كاظمةً العَبْرة: "أمُّك… لا تجوع؛ كُلْهُ أنت."

وكان شعرُها اليابسُ يسترُ معظمَ وجهِها ومع ذلك سمعَ الفتى وَقْعَ الدموعِ على الحصير.

وبينما هما في حزنهما إذ…

طَخ!

رُكلَ البابُ ركلاً فاندفعَ بردُ الشمالِ إلى الدارِ فارتعدَ الفتى — لا يدري أمِن القرِّ أم من الخوف.

وكان الداخلُ عمًّا بعيدًا يُقالُ له مروانُ الليثيّ.

قصيرَ القامةِ في جُبّةٍ زرقاءَ داكنةٍ عريضَ الفَكَّيْنِ ضيّقَ العينينِ أقنَى الأنفِ وعلى مُحيّاهُ غِلظةٌ وشراسة.

ولمّا جاوزَ العتبةَ صاحَ: "تبًّا! أين المالُ؟"

Expand
Next Chapter
Download

Latest chapter

More Chapters

Comments

No Comments
100 Chapters
الفصل1
إقليم الصَّيْف الأكبر، صعيد السَّحابة الزُّرقى، بلدة الصَّرْد الشَّمالي.غلامٌ في السادسةِ أو السابعةِ يتقرفصُ عند سِبْعٍ حجريٍّ بإزاء الباب الخلفيّ من دار آل زاهر.في صقيع الثلج يلبسُ قميصًا غيرَ ملائمٍ لجسدٍ ناحلٍ فيرتجفُ كالسُّنبلة.والأعجبُ أنّ عينيه معصوبتانِ بخرقةٍ سوداء.تُبرزُ الخرقةُ حاجبَيْنِ كسيوفٍ وأنفًا أشمَّ وشفتينِ رقيقتين.وخدّاهُ محدّدانِ أشدَّ التحديد.قعقعةٌ…انفتح البابُ الخلفيُّ لدارِ آلِ زاهر ثم أعقبهُ وقعٌ مُثْقَل.طَخ!طُرِحت جثّةٌ يابسةٌ من البابِ إلى الخارج.فسقط الجسدُ الضامرُ على الأرض فثلمَ الثلجَ ثَلْمًا ضحلًا.تردّد زُهَيْرُ خادمُ الدارِ في فروٍ سميكٍ ولمعتْ في عينهِ شفقةٌ يسيرة.ألقى أربع مائة فلس إلى الأرضِ وردَّ ما بقي في كُمّه.طَقّ!فلمّا سمعَ الفتى نهضَ ونفضَ الثلجَ عن ثوبه وأخرج على وجهه الأزرقِ بسمةً وادعةً وقال: "أزُهَيْرُ أنت؟ أأُلقيتَ آنفًا فضلاتِ المائدةِ من الدار؟"ثم قرفصَ وجعلتْ كفّاهُ المحمرّتانِ تتحسّسانِ الثلجَ على عَجَلٍ.وظلّتِ البسمةُ على وجهه حتى لمسَ جثّةً باردةً تنفذُ قَرَّها إلى العظم!جمدتْ يدُ عبدِ الرقيبِ في الهواءِ وارتجفتْ شف
Read more
الفصل2
خفض عبدُ الرقيب الليثي رأسَه، وارتجف جسدُه قليلًا، قائمًا وفي يدِه أعشابُ الدواء لا يجرؤ على حركة.غير أنّ الرجلَ لمحَ للوهلةِ الأولى عينيه غيرَ مَعصوبتَيْن.فعبس وجهُه، ولطمه لطمةً طرحتْه أرضًا!طَقّ!"تبًّا، كم مرّةً قلتُ لكَ أن تعصبَ عينيك!""يا شؤمَك!""إذا وقعتْ عيناي على عينيكَ، خسرتُ مالي! وسأفقأهما يومًا!"ونظر مروانُ الليثيُّ إلى الأعشابِ المتناثرةِ فازداد غيظُه، فركل عبدَ الرقيب ركلاتٍ موجعة.وزأر: "أأنفقتَ المالَ دواءً؟!""أأنفقتَه؟ أأنفقتَه؟!"ولعلّ مثلَ هذا المشهدِ قد عاناه الفتى مرّاتٍ لا تُحصى، فضمّ رأسَه بكفّيه، وحنى بدنَه اتّقاءً للضرب.وعيناه كأنهما خامدتان، لا يريدُ إلا أن يَمُرَّ العذابُ سريعًا.ومنذ ثلاثِ سنينَ حين هربوا من الجوعِ إلى هذا العمِّ البعيد، بدأتْ أيّامٌ كالجحيم.وكان الفتى على الأرض يحمي ما تناثر من الأعشابِ بجسدِه.وسمعت بَانَة بنتُ صفوان الصوتَ، فاندفعت تتعثّر، ودَفَعتْ مروانَ عن الصبيِّ وهي تهتف: "لا تضرب… لا تضربِ الولد…"فخطف مروان لوحًا بقربه، وهَوَى به على رأسها!طَخ!"مريضةٌ واهية! علامَ يُنفقُ عليكِ! موتُكِ خيرٌ!""ولو علمتُ من قبلُ لأرسلتُكِ
Read more
الفصل3
تقومُ على ذُرى الجبالِ قريةٌ تُسمّى "قريةَ السَّعْدِ المَديد".في دارٍ أنيقةِ البِناء، جلسَ في وسطِ الفِناءِ فَتىً وَضيءُ الطّلعةِ مُتربِّعًا.كان يلبسُ رداءً أبيضَ نقيًّا، وعلى صدرِه سِلْكٌ أحمرُ فيهِ "فلسٌ" بسيط.وشيخٌ ضامرُ الجسمِ غيرُ بعيدٍ منه يَفْتِلُ دُخانَه طَقًّا طَقًّا، وتلتمعُ في عينيه بارقةُ فِطنةٍ إذ ينظرُ إلى الفتى."فتحُ عينِ القلب شديدُ العُسر؛ لعلّه يَتِمُّ هذه المرّة!"وأخذَ عبدُ الرقيب الليثي يُردِّدُ في قلبِه الأذكارَ حتى دخلَ حالًا دقيقةً غامرة."قلبٌ لا عَلاقةَ له يتبيّنُ الهباء؛ وعقلٌ لا تَعَلُّقَ له يُبصرُ السِّرَّ.""جميعُ السُّننِ مردُّها إلى العين؛ ومن لا يُقيمُ خاطرًا فهو الصادقُ الأمين.""اجلسْ سكونًا، واعقدْ لُبَّك، واعُدْ خفقانَ قلبِك؛ حتى يلوحَ نورُ القلبِ فيجلو السَّماءَ والأرض.""انسَ الصورَ تبلغِ الحقيقة؛ فإذا انفتحتْ 'عينُ القلب' وَعَيْتَ سِرَّ المقادير."وكانت هذه القوارعُ التي علّمَه إيّاها جَدُّه تدورُ في رأسِه لا تبرح.فسكنَ كلُّه سكونَ الماءِ الرّاكد، وانحلّتْ عن روحِه عُرى الأشياءِ رويدًا، وطفا وِعْيُه في محيطِ ما حولَه.قليلًا قليلًا أحسَّ عبد
Read more
الفصل4
طريقُ قريةِ السَّعْدِ المَديد في رؤوسِ الجبالِ وعرٌ ضيّقٌ؛ غيرَ أنّه بدا لعبدِ الرقيبِ الليثي سهلًا معبَّدًا.لقد لا يدري كم مرّةً قطع هذا السبيل؛ فكلُّ من في القريةِ يطلبُ الشرابَ إنّما يعهدُ إليه أن ينزلَ إلى البلدةِ فيأتي به.وانحدارُه سريعٌ؛ فلـمّا علتِ الشمسُ قيدَ رُمْحٍ كان قد قاربَ "بلدةَ النّماءِ".وتمادى نَفَسُ عبدِ الرقيب، وخرج العرقُ قليلًا من جبينه، ولمّا لاحَتِ البلدةُ على مبعدةِ أميالٍ تبسّمَ طرفَ فمه."قد بلغنا — وهذه المرّةُ أسرعُ من سالفِها."وما كادتِ الكلمةُ تقعُ حتى اندفعَ جسمُه كالسهمِ يُفلَتُ من وترٍ.بلدةُ النّماءِ" بلدةٌ كبيرةٌ سكانُها نحوُ مئتي ألفٍ ونيف.وكانت حافّتا الطريقِ مملوءتينِ نِداءَ الباعةِ، وفي يومِ السُّوقِ كانت البلدةُ أَشَدَّ صَخَبًا.وفتاةٌ في ثوبٍ أزرقَ فاتحٍ تنظرُ ههنا وههنا — وقد بهتَ لونُ الثوبِ من طُولِ الغسل.وكانت ميّاسةُ الودود تحملُ بُرًّا ودقيقًا وزيتًا؛ وقد لَحَّت طويلًا حتى أذِن لها أبواها أن تهبطَ إلى البلدة."يا عمَّاه، بِكَمْ هذا الكَعْكُ؟""يا صبيّةُ، بفلسٍ واحد.""أبهذا الرُّخص؟ أعطني ثلاثَ قطعٍ، لا… بل أربعًا."وكانت الصبيّةُ تُ
Read more
الفصل 5
زاهرُ الموفّق خرجَ من الباب ولوّح لعبدِ الرقيب بيده، ثم اجتذبه إلى الخلفِ وحدّثه حديثًا وجيزًا.فانقبضتْ عينُ عبدِ الرقيب، واشتدّت قبضتُه حتى انعقدت مفاصلُها."لا يكون… لا يكونُ هذا… متى هبطتْ ميّاسةُ من الجبل؟!"ثم رفع بصرَه إلى زاهر، وقال بصوتٍ مُثقَلٍ يسأل:"أريت صورةَ وجهِها بيّنًا؟ ما قامُها؟"فعقدَ زاهرُ حاجبَيْه طويلًا، ثم قاسَ بيده عند أُذنِ عبدِ الرقيب."نحوَ هذا العلو.""حَسَنةُ الخِلقة؛ غيرَ أنّي لم أتبيّن السِّمات؛ مرّت خاطفةً."وأدركَ الرجلُ أنّ عبدَ الرقيب قد يعرفُ تلك الصبيّة، فقال يُسَلِّيه:"لعلّها خرجتْ من البلدةِ منذ حينٍ، وربّما رجعتْ إلى قريتها الآن."غيرَ أنّ غلامَ الحانوت تمتمَ يقول: "لا أراه… فذُؤيبٌ سُوقيٌّ فاجر، وهو كلبُ ذلك الشابِّ المدعوّ؛ والأغلبُ أنّه…"وهزَّ الغلامُ رأسَه، وكفَّ عن تتمّةِ الكلام.فحملَ عبدُ الرقيب الجرارَ على كتفِه، وخطا عِجالًا حتى وقفَ لدى الشيخ."يا عمَّ سليم! أنا هو."فرفعَ الشيخُ رأسَه دامعَ العينين رويدًا، ومسحَ بكمِّه، فعرفَ أنّه عبدُ الرقيب."آهٍ، هو فتى صديقُنا عبدُ الرقيب.""انظرْ… ما أنا فيه… آه…"فتوجّعَ عبدُ الرقيب لحالِه، غي
Read more
الفصل 6
دَوِيّ!وإذا طوب رمادي تحت قدمي عبدِ الرقيب ينفجرُ فجأةً.وحَدَّقَ ذُؤيب، فأدرك أنّ عبدَ الرقيب قد يكونُ سالكًا من أهل التزكية والقوى الخفية!غيرَ أنّ إدراكَه جاء متأخرًا — فعلى بُعدِ عشرِ قاماتٍ لم يرَ الناسُ إلّا ظلًّا انقضَّ في لمحٍ!طَخّ!انخفضَ عبدُ الرقيب فتجنّبَ خنجرَ ذُؤيب، ثم هوى بقبضتِه كالمِطرقة على ذقنه.وسمع الحاضرون طقطةَ العظمِ تتكسّر واضحةً عند آذانهم.وكانتْ ضربتُه الغاضبة هائلةً، فحطّمَت ذقنَ ذُؤيب، فطار جسدُه في الهواء!ثم قبض بيسراه عظامَ يده اليمنى، وانتزع الخنجر وطعنه به مرارًا!وتفجّرت دماءٌ حارّةٌ على وجهِ عبدِ الرقيب، غيرَ أنّ سِمتَه بقيتْ ساكنةً من أوّلِ الأمر إلى آخرِه.فقد عَقَد العزمَ على القتلِ ساعةَ حرّكَ يدَه!وشخصتْ عينا ذُؤيب، وانكمشت الحدقةُ حتى صارتْ كَسِنِّ الإبرةِ ترتعدُ جنونًا.وما كان يصدّقُ ما يرى وهو يحسُّ الحياةَ تتسرّبُ منه…"آه! يا ذُؤيب!"قلبَ عبدُ الرقيب الخنجرَ في يمناه، وتموّجَ جسمُه فغابَ عن موضعه ووقف بإزاءِ آخر.فنظر الرجلُ إليه رُعبًا، كأنّه يتشدّدُ لنفسه، ثم هاج عليه ضربًا."اذهبْ إلى الهلاك!"فلقِيَ قبضتَهُ بقبضةٍ أدهى منها!فانكسر
Read more
الفصل 7
فووو!خطٌّ من سَنا ذهبيٍّ اندفع من بلدةِ النماءِ حتى لامسَ كُللَ السحاب!فهَبَّ عبدُ الرقيب برأسه، وكاد يُبصرُ طيفًا في ثوبٍ أبيض يركبُ السيفَ ويمشي في الهواء!فتغيّر لونُه تغيّرًا شديدًا."ركوبُ السيفِ طيرانًا… سالِكٌ في مرتبةِ التأسيس!"فأخرجَ بُرهانُ الزاهري رقعتينِ منقوشتينِ من التعويذ، فلصقهما بذاتِه.فصارتا حِجابًا ذهبيًّا يُظلّه ويُطوّقه.وانفرجت سَمْتُه، فاضطجعَ على الأرضِ يقهقه."هاهاهاها، يا لخسيس! يا لخسيس! لن تستطيعَ قتلي!""إذا التقينا ثانيةً سلختُ جِلدَك يقينًا!"فأخذَ عبدُ الرقيب نَفَسًا طويلًا، ووازنَ بين العاقبةِ والمنفعة، ثم آثرَ الانصراف…ولو شاءَ كسرَ ذلك الحاجزَ لاستطاع، غيرَ أنّه يُضَيِّعُ فيه وقتًا طويلًا.وهو إلى الآن لم يدخلْ في طور التهذيب، ومواجهةُ صاحبِ مرتبةِ التأسيس مَهونُها الهلاك!فأدخلَ أفلاسَه في حِجرِه، وأخذَ بميّاسةَ من خصرِها.وفي صيحتِها، حملَها ووثبَ إلى ظهرِ فرسٍ، واندفعَ نحوَ طريقِ الدار.ورأى ذلك السالِكُ، فلمّا أبصرَ بُرهانَ مثخنًا ازورّ لونُه.وكان بُرهانُ كالمتشبّثِ بقَصَبِ نجاةٍ يصيح: "يا شيخَ آلِ زاهر… أَ… أنقِذْني…""وذاك… ذاك الخسيس… نُر
Read more
الفصل 8
الفناءُ الخلفي.وكان سُهيلُ الغامضُ قد جلسَ وراءَ المائدةِ مُمسِكًا القلمَ.فألقى عبدُ الرقيب قميصَه على سجيّتِه، وولّى ظهرَه للشيخ.وقال الشيخُ خافتًا: "هذه آخرُ مرّةٍ، فاصبِر قليلًا."فقال الفتى متبسّمًا: "هَلُمَّ يا جدّي، فمثلُ هذا قد جُرِّبتُه غيرَ مرّةٍ، وأنا أحتمل."وضحك الشيخُ فربّتَ رأسَه وقالَ مُدلِّلًا: "أيُّها الشقيّ."ثم غمسَ يمناه في مائعٍ لَزِجٍ في طبقٍ يَشْبيّ.وأجرى بالقلمِ على ظهرِ الغلامِ رسومًا خفيّةً.وبين جريِ السنِّ كان جسدُه كالصخرةِ لا يتحرّك.غير أنّ العَرقَ الباردَ نضحَ جبينَه، وخرجتْ منه أَنةٌ مكتومة.وكان يحتملُ صامتًا عذابًا غيرَ إنسانيٍّ، ويزفرُ زفراتٍ خفيّة.فإنْ كان حمّامُ الدواء كالإبرِ تنفذُ في البدن، فإنَّ وجعَ الساعةِ كشقِّ اللحمِ ونزعِ العظم!وهذا الألمُ الجَلِيُّ أشدُّ من حمّامِ الدواء مائةَ ضِعف!وبعدَ ساعةٍ.لمّا رفعَ الشيخُ قلمًا مُذهّبًا اتّصلتِ الرسومُ في جسدِ الفتى، تلوحُ في ضوءِ القمرِ حُمْرةً عجيبةً.فلمّا رأى ذلك ابتسمَ راضيًا وقال: "تمَّ الأمرُ أخيرًا! أما تخشى أن أكونَ أُريدُ بكَ سوءًا؟"فسكنَ قليلًا، ثم التفتَ إليه متبسّمًا وقال."لو شئ
Read more
الفصل9
كانَ الخمرُ العَتِيقُ يسيلُ في حَلقِه كخَطِّ نارٍ مُتَّقِدٍ.فضحك سُهيلُ الغامضُ وقال مُبادِرًا: "رويدَك أيّها الفتى، أَهكذا يُشرَب؟""أفسدتَ لذّةَ الرحيق، وجعلتَه شرابَ صَعْلُوك!" سعلَ وقال: "لم أظنُّ هذا الشّرابَ لاذعًا إلى هذا الحدّ!" وبعد حينٍ أفاق الفتى قليلًا، والتقط لقمتين وقال: "يا جدّي، ماذا أصنعُ إذا هبطتُ من الجبل؟"فنقرَ سُهيلٌ رأسَه بالعصوينِ وتبسّم."لقد بلغتَ ذُرَى تهذيب النَّفَس." "والخُطوةُ التاليةُ أن تُدخِل قُوَى السّماء والأرض فيك، فتبلغَ طورَ التهذيب." "وحين تُقارِنُ ذلك بعينِ قلبِك، تصيرُ كصاحبِ عينينِ تُبصِرانِ سواء." ودارتْ عيناه الشاحبتانِ، وطلعَ على فِيه بَشَاشَةُ أملٍ.وقال الشيخُ مُتابعًا: "قد بلغتَ أربعَ عشرةَ سنةً، وهي سِنُّ الانتماءِ إلى الطائفة، فقد آنَ هُبوطُكَ من الجبل." وكان عبدُ الرقيب منذُ صِباه يشتاقُ أن يُزكّي نفسَه.ليكونَ ممّن يَعلو ويهبطُ، ويطيرُ بالسيفِ في السّماء.غيرَ أنّه عاش مع سُهيلٍ ثمانَ سنينَ طيّباتٍ، فما ظنَّ الفُرقةَ تدنو بهذه السُّرعة.وقال خافتًا وهو يلتقطُ لقمةً: "الطوائفُ في الدّنيا لا تُحصى؛ بل في صعيدِ السّحابةِ الزُّرقى
Read more
الفصل 10
هذا السُّلَّمُ ثلاثَةُ آلافٍ وثلاثُمِائةٍ وثلاثٌ وثلاثونَ درجةً.وكان قيّمُ طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر قائمًا عند أسفلِ السُّلَّمِ قد نصَبَ لَوحًا.وعليه مكتوبٌ بوضوح: "على من يبتغي الانتسابَ إلى الطائفة أن يرقى سُلَّمَ السّماءِ بقدميه، ويُمنع استعمالُ كلِّ عارضةٍ أو آلةٍ!" وبينما الجموعُ تعِجُّ صخبًا، شقَّ عبدُ الرقيبِ الليثيُّ الناسَ كأنّه سَمَكٌ في الماءِ، وعلى فيه ابتسامٌ، ثم وَطِئَ سُلَّمَ السّماءِ قُدُمًا.ورآه كثيرٌ من الحاضرينَ بأعينهم.وقال فتىً مُترفُ الثوبِ وقد عَقَدَ ما بين حاجبَيه: "من هذا الفتى؟ يحملُ كفنًا عظيمًا على ظهره ويَخِفُّ في السَّعي!" "إنّ بَأْسَهُ غيرُ هيّنٍ!" وطائفةٌ عدّوه طالبَ صيتٍ، وأيقنوا أنّه سيخورُ بعد قليلٍ.ومع ذلكَ فقد هاجَ ذلك في نفوسٍ كثيرةٍ رغبةَ السّبْقِ والغَلَبةِ.غيرَ أنّه خلّفَهم عبدُ الرقيبِ جميعًا وراءَه.ولم يكن يَعلمُ أنّه قد بدأ امتحانَ الدّخولِ إلى طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر.وإنّما كان قلبُه مُعلَّقًا بطائفةٍ أثنى عليها جدُّه، مُتطلِّعًا راجيًا.وما إن وطِئَ الدرجةَ الأولى حتّى انعقدتْ عليه أبصارٌ كثيرةٌ.فهذا الغلامُ يحملُ وراءَه
Read more
Explore and read good novels for free
Free access to a vast number of good novels on GoodNovel app. Download the books you like and read anywhere & anytime.
Read books for free on the app
SCAN CODE TO READ ON APP
DMCA.com Protection Status