Share

الفصل 4

Author: قهوة بدون ثلج
كان الألم الحارق على وجنتي يشتعل كالنار في الهشيم، وراودتني رغبة جامحة في الردّ.

لكن طرف عيني التقط حركة الضيوف المتنقّلين في القاعة، واليوم هو يوم احتفالي ببلوغي سنّ الرشد، وأيّ تصرف طائش الآن سيجعل عائلة الهاشمي أضحوكة قبيلة القمر بأسرها.

اختبأت ندى خلف رامي، وابتسامة خفيّة ارتسمت على شفتيها يصعب إخفاؤها.

تعمّدت أن تحتكّ بذراعه بخفّة.

تردّد رامي قليلًا، ويده المرفوعة في الهواء لم تهبط بعد، ربما شعر بأن الصفعة كانت قاسية أكثر من اللازم، وتحركت تفاحة حلقه وكأنه أراد أن يقول شيئًا.

لكن ندى رفعت قدميها على أطراف أصابعها وقالت بصوت مرتجف:

"رامي، ساقي تؤلمني... هل لن أستطيع المشي مجددًا؟"

أصابعها الرفيعة التفت برفق حول معصمه، فشدّت انتباهه إليها تمامًا.

تعالت الهمهمات من حولي كأمواج البحر، ونظراتهم كانت كإبرٍ مسمومة تخترق جلدي.

"يا لقلّة أدبها، تضرب أختها من أجل أن تخطف رفيقها!"

"ألا ترى نفسها؟ كيف يمكن للأمير رامي أن يختارها أصلًا؟"

قطّب رامي حاجبيه ورمقني بنظرةٍ حادّةٍ، وامتلأ صوته بالاشمئزاز:

"ما الذي تنتظرينه؟ إن حدث لندى شيء، فلن أرحمك."

بدأ أتباعه من خلفه يثيرون الضجيج:

"نعم، اعتذري الآن للآنسة ندى!"

"أتظنين أن والدك أنقذ الملك من السهم الفضيّ في الماضي فصار لك الحقّ في التعلّق بوريث منصب الألفا القادم؟"

وفجأة تذكّرت حياتي السابقة، كم قضيت من ليالٍ في ساحة التدريب أتمرّن لأجل رامي، وكنت أتوعد كلّ من يجرؤ على النظر إليه بأن أمزّق حلقه.

كنت أظنّ أن القسوة تحفظ الحبّ، أمّا الآن فلا أرى في ذلك سوى حماقة.

اقترب رامي مني خطوة واحدة، وامتلأت عيناه الذئبيتان بازدراء يكاد يخنقني:

"والدي سيعلن خطوبتنا بعد قليل، فكوني عاقلة وتذكّري مكانك."

خفض صوته متعمّدًا، ونبرته تحمل غطرسة من يمنّ بالعطاء:

"سأمنحك ما تستحقّينه من مكانة بعد الزواج، لكن لا تتدخّلي أبدًا بيني وبين ندى."

رفعت رأسي، واصطدمت عيناي بعينيه الكهرمانيتين.

دوّى بوق احتفال بلوغ سنّ الرشد، ونغمة طويلة اخترقت الضجيج.

دخل المستذئب البيتا المسؤول عن الطقوس وقال:

"الآنسة سلمى الهاشمي، حان وقت إجراء احتفال بلوغ سنّ الرشد."

حين وقعت عيناه على وجهي المتورّم، لمعت في عينيه الغائمة لمحة شفقة خفيّة.

وخلفه كان يقف رجل يرتدي عباءة سوداء، غطّى قبعته وجهه حتى لم يظهر سوى فكّه الحادّ.

على كتفه سيف مقوّس بنقوش فولاذيّة، يتدلّى من غمده ناب ذئب يتأرجح مع خطواته.

إنه فارس الشماري، الابن الأكبر للألفا، العائد تواً من غابة الظلال السوداء بعد رحلة التدريب.

وفي لحظةٍ، خيّم الصمت على الحشد بعد الصخب، كأنّ الزمن توقّف فجأة.

كاد بعض الشبان المستذئبين في الصفّ الأمامي أن يركعوا من شدّة الرهبة، وسقطت أوعية النبيذ من أيديهم فتناثر النبيذ على النار محدثًا شرارات متطايرة.

حتى المستذئب البيتا ارتجف جسده قليلًا.

كان الجميع يعلم أنّ فارس ذاع صيته بوحشيّته وقسوته.

وقبل وقتٍ قصير، سلخ جلد مستذئبٍ من قبيلة الذئاب الرمادية تجرّأ على تحدّيه، ويبدو أنّ رائحة الدم ما زالت ترافقه.

تقدّم فارس نحوي مباشرة، وأدار السيف في كفّه ثم لمس بذراع الغمد ذراعي بلطفٍ محسوب.

"ما الذي أصاب وجهك؟" قالها بصوتٍ لا يقبل الجدل، ونظره من تحت ظلّ غطاء الرأس كان حادًّا كشقائق الجليد في بحيرةٍ متجمّدة.

تأمّلتُ زرقة عينيه العميقة، وفجأة تذكّرت من حياتي السابقة كيف اقتحم وحده السرداب المظلم، يقاتل حتى الموت ليخرج جثّتي بين ذراعيه، ثم حارب قبيلة القمر كلّها لأجلي.

"لا شيء." تمتمت وأنا أحاول إخفاء تورّم وجنتي بابتسامة باهتة.

ضحك رامي بسخرية وتقدّم خطوة ليقف بيننا:

"أخي، لا داعي لأن تشغل نفسك بأمر سلمى."

ثم نفخ صدره بفخرٍ مصطنع:

"سلمى ستكون قريبًا رفيقتي، وأنا من يقرّر بشأنها."

تجهّم المستذئب البيتا وهمّ بالكلام، لكن فارس أوقفه بنظرة واحدة.

ثم رفع يده ونزع قبعته، كاشفًا عن وجهٍ حادّ الملامح وقال:

"الألفا أرسلني، وقال إن احتفال بلوغ سنّ الرشد لابنة عائلة الهاشمي شأنٌ عظيم في قبيلة القمر."

"هيا، إلى الداخل."

سرت خلفه بخطواتٍ ثابتة، وعندما مررت بجانب رامي سمعت همسه لندى:

"أرأيتِ؟ في النهاية لا تملك إلا أن تطيع."‬
Continue to read this book for free
Scan code to download App

Latest chapter

  • تزوجتُ أخا خطيبي بعد عودتي إلى الحياة   ‫الفصل 11‬‬‬

    حين أرخى الليل ستاره، دخل فارس.كنت متكوّرة على السرير، أراقبه وهو يغلق الباب خلفه.قلت له: "لماذا تقف هناك؟"ربّتُّ على جانبي متعمّدة البطء وقلت: "هل ما زلت تظن أنك حارس يقف عند الباب بعد الزواج؟"لم يجبني، بل خطا نحوي بخطوات واسعة، نزع عباءته وأبان عن كتفين قاسيين محفورين بالندوب القديمة والجديدة، آثار معارك لا تنتهي.انحنى فوقي، يده تضغط على كتفي وتحصرني بين ذراعيه والسرير، أنفاسه تعبق برائحة نبيذ الصنوبر، وقال: "من التي قالت قبل قليل إن عليّ أن أصعد إلى السرير؟"رفعت رأسي أتأمل خط فكه المشدود، ومددت يدي ألمس شحمة أذنه، كانت حارّة كالجمر.قلت مبتسمة: "ما بك يا سموّ فارس، أأصبحت تخاف؟"ضحك بخفوت، عضّ طرف شفتي بقوة لا تقبل الجدل وقال: "أنت ملكي، فممّ أخاف؟"لكن حين مدّ أصابعه ليفك رباط ثوبي، توقّف لحظة وقال: "سأسألك شيئاً."قلت: "ما هو؟""يقولون في القبيلة إنك كنتِ مستعدة للتضحية بحياتك من أجل رامي." قال وهو يمرّر أنامله على عظمة ترقوتي: "والآن وأنتِ معي، هل تستطيعين أن تنسيه تماماً؟"قلت وأنا ألتف حول عنقه وأقترب منه أكثر: "ماذا لا أستطيع أن أنساه؟ كنت عمياء آنذاك، أما الآن فقد أبصرت

  • تزوجتُ أخا خطيبي بعد عودتي إلى الحياة   ‫الفصل 10‬‬‬

    في يوم مراسم الزواج، استيقظت قبل بزوغ الفجر لأتهيّأ وأتزيّن بنفسي.حين دخل فارس رافعًا الستار، كان يحمل بين يديه باقة من أعشاب النجوم جمعها تواً من غابة الأرز، لا تزال قطرات الندى تلمع على بتلاتها.انحنى ثم حملني بين ذراعيه بخطوات واسعة خارج المسكن، متجهًا نحو تمثال إلهة القمر.رفعت نظري خلسة أتأمل ملامحه الجانبية.هو يختلف تمامًا عن رامي، فذلك أشبه بنارٍ جامحة لا تهدأ، يشي حوله جوّ من التمرّد والاستهتار.أما فارس، فملامحه حادّة باردة، وفكه مشدود كحدّ السيف، وأنفه شامخ كأنه نُحت من صخر.يقول البعض إنه بعيد الطباع، لا يعرف كيف يحبّ.لكنني رأيت جنونه يوم اقتحم السرداب من أجلي، والآن، وأنا أنظر إلى شفتيه المطبقتين بإصرار، شعرت بدفءٍ يغمر قلبي.الطريق نفسه الذي سرت فيه في حياتي السابقة خلف رامي نحو التمثال، كنت حينها مثقلة بالقلق، أخشى أن يتراجع في اللحظة الأخيرة.أما في هذه الحياة، وأنا في حضن فارس، فلا أشعر إلا بالطمأنينة، كأنني وجدت ملاذي.لسببٍ لا أعلمه، توقّفت خطوات فارس فجأة.أمام تمثال إلهة القمر، وقف رامي مرتديًا أبهى لباس القبيلة، وعلى صدره شارة القمر التي ترمز للعريس، حاجزًا الطر

  • تزوجتُ أخا خطيبي بعد عودتي إلى الحياة   ‫الفصل 9‬‬‬

    اجتاحني شعور قويّ بالاشمئزاز، فتراجعت نصف خطوة لأتجنّب يده التي قدّمت لي الخاتم.قلت ببرود: "ألستَ مخطئًا؟ أليست ندى هي من تحبّها؟"نهض رامي بسرعة ومدّ يده ليمنعني من الابتعاد، لكن ندى أمسكت بذراعه بقوّة، فاضطرّ إلى الصراخ:"سلمى، اسمعيني، كلّ ما حدث كان سوء فهم! قلبي لا يسكنه سواكِ، لا أحد يساويك عندي!"ابتسمت بسخرية وقلت: "لم تكن تقول هذا من قبل. قلتَ إنّ عليّ بعد الزواج أن أكون هادئة ومطيعة، وألّا أتدخّل فيما لا يعنيني، وليس لي أيّ حقّ في التدخّل فيه."قال متوسّلًا وقد ارتسم القلق على وجهه، لكنّ نبرته كانت تنضح بتصنّع الصدق:"كنتُ غارقًا في لحظة طيش! كيف يمكن أن أكون قاسيًا معكِ حقًّا؟!"كانت ندى تستمع والدموع تنهمر من عينيها كحبّات اللؤلؤ المنفرطة:"رامي، قلتَ لي إنّك تحبّني أكثر، وإنّني ألين وأفهم من أختي، ووعدتَني بأنّك ستتزوّجني في ليلة اكتمال القمر... أنا..."صرخ بغضب:"اصمتي!"رفع رامي يده وصفعها صفعةً قاسية، كانت بالقوّة نفسها التي صفعني بها في ذلك اليوم.تورد وجهها بخمس علامات واضحة، وضعت يدها على خدّها وحدّقت فيه بذهول.قال بازدراء:"أيتها الحقيرة، أنتِ من أغويتِني! لولاكِ

  • تزوجتُ أخا خطيبي بعد عودتي إلى الحياة   ‫الفصل 8‬‬‬

    كانت الشائعات في قبيلة القمر تنتشر كالأعشاب البرّية، لا تمضي سوى أيّام قليلة حتى تغزو كلّ زاوية من زوايا القبيلة.قال بعضهم إنّ رامي تشاجر مع الألفا في القاعة الكبرى بسببي،وقال آخرون إنّه، منذ أن اخترتُ فارس، صار رامي يقضي أيّامه مع ندى، يُخالطها ويَلتصق بها ليلا ونهارا.كلّ تلك الأحاديث لم تُحرّك فيّ شيئًا.فقد حُدّد موعد زفافي مع فارس في ليلة اكتمال القمر من الشهر القادم.في صباحٍ ما قبل المراسم، وجدني فارس في ساحة التدريب.كان متكئًا على سيفٍ مغروسٍ في الأرض، وندى الصباح يبلّل أطراف شعره.ظلّ صامتًا طويلًا قبل أن يتكلّم، وصوته يحمل توتّرًا خفيًّا:"الناس في الخارج يقولون إنني عنيف بطبعي، وإنّ يدي تلطّخت بدماء كثيرين."رفع نظره إليّ، وكان بريق عينيه حادًّا كحدّ السيف:"ألستِ خائفة؟"توقّفت يدي التي تمسك القوس، ثمّ التفتُّ إليه:"ممَّ أخاف؟""من أن أفقد السيطرة يومًا، وأؤذيك."كانت أنامله تلامس نقش مقبض السيف بلا وعي، ثمّ قال:"لكن حتى لو خفتِ، فقد فات الأوان الآن."ابتسم فجأة، وبدت ابتسامته حازمة لا تقبل الجدل:"سواء ندمتِ أم لا، لن أتركك.""يا سلمى، في هذه الحياة لن تكوني سوى رفيقت

  • تزوجتُ أخا خطيبي بعد عودتي إلى الحياة   ‫الفصل 7‬‬‬

    في مأدبة العشاء التي أُقيمت بعد احتفال بلوغ سنّ الرشد، كانت المشاعل تُلقي ظلالاً متراقصة على الجدران الحجرية.جُلت بناظري بين الحضور المتزاحمين، ولم ألمح أثرًا لرامي.وحين استدرت وأنا أحمل كأس نبيذ التوت، اصطدمتُ بصدرٍ صلبٍ قويّ.تسلّل إلى أنفي عبير خشب الصنوبر البارد، فاحمرّت عيناي على الفور.في حياتي السابقة، حين حبسني رامي في السرداب، كان فارس هو من ركل الباب الخشبيّ الثقيل وحملني بين ذراعيه وأنا على وشك الموت.كان جسده يومها مغطّى بالجراح، وزأر في وجه المستذئبين الذين أحاطوا بنا:"من يجرؤ على لمسها بعد الآن، سأسلخ جلده وأدفنه معها!"بعد موتي، سفك الدماء في السرداب، ووضع كلّ أدلة جرائم رامي أمام الألفا العجوز.كنتُ آنذاك روحًا هائمة، أراه يقف وحده في وجه قبيلة القمر بأكملها، وهناك فقط أدركت كم كنتُ غالية في قلب ذلك الرجل العنيف.ومنذ أن وُلدت من جديد، ظلّ صوت داخلي يهمس لي: "اختاريه، فهذا هو الصواب."عندما بدأت الوليمة، أشار الألفا إلى فارس أن يجلس عن يمينه، إلى جوار المقعد الأرفع.كان كلّ المستذئبين يدركون أنّ هذه إشارة واضحة إلى تثبيت الوريث القادم.جلس فارس بثقة إلى جانب الألفا د

  • تزوجتُ أخا خطيبي بعد عودتي إلى الحياة   ‫الفصل 6‬‬‬

    ما إن انتهت الكلمات حتى عمّت الهمهمات القاعة الكبرى، وتبادل المستذئبون النظرات والهمس."كيف يكون هو؟""ألم تكن سلمى تحب رامي إلى حدّ التضحية بحياتها؟ كيف اختارت فارس؟""هل هذا صحيح؟ أليس هناك خطأ ما؟"اكفهرَّ وجهُ رامي في الحال، وتقدّم خطوتين إلى الأمام وصوته يفيض قلقًا:"أبي، هل أخطأت في الأمر؟"رمقه الألفا العجوز بنظرة جانبية، وضرب صولجانه بالأرض بقوة:"قد شختُ، نعم، لكنني لم أفقد صوابي بعد لأخلط بين الأشخاص. قرار كهذا يخصّ مستقبل قبيلة القمر، فكيف يمكن أن أخطئ فيه؟"تلقّف الحديث المستذئب البيتا الواقف جانبا، ونشر اللفافة التي بيده قائلا:"الملك قالها بوضوح، الرفيق الذي اختارته سلمى هو فارس."قاطعه رامي بعصبية، وصوته يحمل إنكارًا شديدًا:"مستحيل! لا بد أن هناك خطأ ما!"ثم التفت إليّ فجأة، وفي عينيه بريق أمل أخير:"سلمى، أليس هناك خطأ؟ لقد اخترتِني أنا، أليس كذلك؟ أبي هو من أساء الفهم، أليس كذلك؟"ابتسمتُ بخفة، ونطقتُ بنبرة هادئة لكنها حازمة:"اخترتُ فارس.""من اليوم فصاعدًا، هو رفيقي الوحيد، وحبي الأبدي."لمّا سمع فارس هذه الكلمات، سكنت أصابعه الممسكة بزهور ضوء القمر لحظة لا تكاد تُر

More Chapters
Explore and read good novels for free
Free access to a vast number of good novels on GoodNovel app. Download the books you like and read anywhere & anytime.
Read books for free on the app
SCAN CODE TO READ ON APP
DMCA.com Protection Status