Share

الفصل 5

Author: اليمامة المباركة
زاهرُ الموفّق خرجَ من الباب ولوّح لعبدِ الرقيب بيده، ثم اجتذبه إلى الخلفِ وحدّثه حديثًا وجيزًا.

فانقبضتْ عينُ عبدِ الرقيب، واشتدّت قبضتُه حتى انعقدت مفاصلُها.

"لا يكون… لا يكونُ هذا… متى هبطتْ ميّاسةُ من الجبل؟!"

ثم رفع بصرَه إلى زاهر، وقال بصوتٍ مُثقَلٍ يسأل:

"أريت صورةَ وجهِها بيّنًا؟ ما قامُها؟"

فعقدَ زاهرُ حاجبَيْه طويلًا، ثم قاسَ بيده عند أُذنِ عبدِ الرقيب.

"نحوَ هذا العلو."

"حَسَنةُ الخِلقة؛ غيرَ أنّي لم أتبيّن السِّمات؛ مرّت خاطفةً."

وأدركَ الرجلُ أنّ عبدَ الرقيب قد يعرفُ تلك الصبيّة، فقال يُسَلِّيه:

"لعلّها خرجتْ من البلدةِ منذ حينٍ، وربّما رجعتْ إلى قريتها الآن."

غيرَ أنّ غلامَ الحانوت تمتمَ يقول: "لا أراه… فذُؤيبٌ سُوقيٌّ فاجر، وهو كلبُ ذلك الشابِّ المدعوّ؛ والأغلبُ أنّه…"

وهزَّ الغلامُ رأسَه، وكفَّ عن تتمّةِ الكلام.

فحملَ عبدُ الرقيب الجرارَ على كتفِه، وخطا عِجالًا حتى وقفَ لدى الشيخ.

"يا عمَّ سليم! أنا هو."

فرفعَ الشيخُ رأسَه دامعَ العينين رويدًا، ومسحَ بكمِّه، فعرفَ أنّه عبدُ الرقيب.

"آهٍ، هو فتى صديقُنا عبدُ الرقيب."

"انظرْ… ما أنا فيه… آه…"

فتوجّعَ عبدُ الرقيب لحالِه، غيرَ أنّ وقتَ المُجَاملةِ لم يَحْضُر.

وسأل: "ألم تأتِك صبيّةٌ في الثالثةِ أو الرابعةِ عشرة، دوني قامةً، في كمِّها زُهرٌ بيضٌ مُطرَّزة، تبتاعُ منك كعك الأرز؟"

فتذكّرَ الشيخُ قليلًا، ثم ذكرَ ميّاسةَ الودود التي اشترت أربعَ قطعٍ.

"نعم نعم؛ جاءتْ تلك الصبيّة!"

"ابتاعتْ أوّلًا ثلاثًا، ثم رجعتْ فقالتْ: أربعًا؛ فأعدْتُ لفَّها؛ أذكرُ ذلك بيقين."

فانخسفَ قلبُ عبدِ الرقيب؛ وتيقّن أنّ ميّاسةَ عينُ قصْدِهم!

فلما علمَ أنّها هي اضطربتْ نفسُه، وأمسكَ بمنكبَيِ الشيخِ وقال: "إلى أينَ مضتْ؟"

غيرَ أنّ الشيخَ لا يَحفظُ هذه الجزئيّاتِ الساعة.

بل ما علمَ أنّ ميّاسةَ كانت في الزِّحامِ أصلًا.

"إلى شَرْقِ البلدة!"

وأشار غلامُ الحانوتِ بالجهةِ، فأومأ عبدُ الرقيب، ولم ينتظرْ شكرًا بل اندفعَ في الناس!

وفي تلك الأثناء.

كانت ميّاسةُ قد تنفّستْ، كأنّها أزالتْ أثرَ مَنْ يتبعُها.

ورفعتْ رأسَها إلى السّماءِ المُظْلِمَةِ قليلًا وأسرعتْ نحوَ خارجِ البلدة؛ فإنْ أبطأتْ لم تبلغِ البيتَ قبلَ الظلام.

وحينئذٍ كم يَفْزَعُ أبواها!

لكنّها لم تَسِرْ بعيدًا حتى رأتْ عجوزًا منكودةً مطروحةً على جانبِ الطريق.

وكان رأيُها أن تُعْرِضَ وتمضي؛ فعضّتْ شفتَها وأسرعتْ.

وإذا بالعجوزِ تتعلّقُ بذيلِ ثوبِها بكلِّ ما بَقِيَ لها من قوّة.

وكانتْ شاحبةَ الوجهِ يابسةَ الشفتَيْن؛ كأنّها ما ذاقتْ طعامًا ولا شرابًا زمنًا.

وأمسكتْ بكفٍّ يابسةٍ مُرتعشةٍ بجانِبِ ثوبِها وقالت مُتقطّعًا:

"يا صبيّة… أعطِ… أعطِني شيئًا… آكلُه."

ثمّ أخرجتْ من حِجْرِها سِوارًا من اليَشْبِ ملفوفًا في خِرْقَةٍ، فناولَتْه ميّاسة.

"هذا سِواري… أعطني لُقْمةً فحسب."

واغرورقتْ عينا العجوز بالدمع؛ فبدتْ حالُها بالغةَ الرِّقّة.

فلم تطقْ ميّاسةُ أن تدعَها تموتُ جوعًا، فأخرجتْ كعكةً من اللفافةِ الدُّهنيّةِ وناولَتْها.

ولأنّ العجوزَ تشبّثتْ بثوبِها، خافتْ إنْ لم تُعْطِها أن لا تفلتَ منها.

"خُذي هذا واتركي ثوبي."

فأخذتِ العجوزُ الكعكةَ، تزدردُها ازْدِرادًا، ولم تُطْلِقْ يدَها.

فجَذَبَتْ ميّاسةُ ثوبَها في عَجَلٍ وقالت مُتَجَهِّمةً: "قد أعطيتُكِ طعامًا؛ دَعِي يدي…"

فأكرهَتِ العجوزُ السِّوارَ على مِعْصَمِ ميّاسة.

"آه! وجَعٌ… لا أُريدُه! خُذيه!"

ولمعتْ الخُبْثَةُ في عينِ العجوزِ، فأرسلتْ الكعكةَ من فمِها إلى الأرض.

"البسيهِ يا صبيّة."

وما كادتْ تنطقُ حتى جاء من بعيدٍ صوتٌ بارِدٌ متكاسِل:

"يا أمّاه! أين أنتِ؟"

"ذلك السِّوارُ لِعَرُوسي."

وجاء الصوتُ من غَيْبِ الزُّقاقِ، فيه هَزْلٌ واستهزاء.

فتغيّرَ لونُ ميّاسة، وفَهِمَتِ المكيدةَ على التَّوِّ.

وطرحتْ ما في يدِها وجعلتْ تستميتُ تَنْزِعُ السِّوارَ؛ حتى احمرَّ مِعْصَمُها من حَكِّ المائدة، وآنَذاكَ برزَتْ أشباحٌ من عُمقِ الزُّقاق.

وكانوا خمسةً، يتقدّمُهم ذُؤيبٌ القبيحُ الخِلْقة!

"هاهاها، يا أمّاه، هذه عروسِي التي اصطفيتِ؟"

وأخذتْ ميّاسةُ ترجعُ القهقرى، تنظرُ إليهم فَزِعةً.

وقد سَدَّ الخَدَمُ مَخارِجَ الطُّرقِ عن يمينٍ وشمال.

فصاحتْ ميّاسةُ: "لستُ كذلك! لا تُفْسِدِ الكلام!"

ووضعَ ذُؤيبُ يدَيْه في كُمَّيْه، وحدّقَ في مِعْصَمِها مُبتسمًا.

"وأينَ لا تكونينَ، وقد لَبِسْتِ تِذْكارَنا."

وكان وهو يتكلّمُ يَدنو منها، وأرسلَ نظرَه إلى صدرِها نظرةً فاجرةً بَخِسَة.

فرجفتْ ميّاسةُ شُحُوبًا من قُبْحِ تلك النظرة.

وكان بعضُ الجيرانِ يُطِلُّون؛ لكنّهم أمسكوا عن القول.

وأمّا الخالةُ مي فقالتْ تستدرُّ الرِّقّةَ من الناس:

"قد رضيتِ خِطبتَنا، وأخذتِ بيدِكِ تراثَنا، فكيفَ الآن ترجعين…"

فانطلقتِ الألسُنُ في الناسِ بالتعليق.

"عجيبٌ من هذه الصبيّة… كيفَ ترجعُ بعدَ الرِّضا؟"

"نَعَمْ، والسِّوارُ في يدِها، وهو نفيسٌ."

"هاه… وذُؤيبٌ يتيمٌ؛ فأينَ له أُمٌّ؟ هذه الصبيّة…"

وكان بعضُهم يَعلمُ السِّرَّ، لكنّ أكثرَهم خَدَعَتْه العجوز.

وطأطأتِ العجوزُ رأسَها، وتستّرتْ خُبْثَتُها تحتَ شَعْرٍ مُبَعْثَر.

وبَدَأتْ تُفكّرُ: أتأخذُ الجُعْلَ ثم تفرُّ إلى موضعٍ آخر؟

فجأةً!

لمعَتِ الشِّدّةُ في عينَيْ ميّاسةَ، فرفعتْ مِعْصمَها وضربتْ السِّوارَ بالحجرِ في الأرض!

وارتاعَ ذُؤيبُ؛ فإنّ السِّوارَ عاريةٌ نفيسةٌ من برهانَ الزاهري.

"دَعِي يدَكِ! أَتَجْتَرِئين!"

ولم تُصْغِ ميّاسةُ إلى قوله.

طَخ! طَق!

وانكسرَ سِوارُ اليَشْبِ الثمينُ، وشقَّتْ حوافُّه مِعْصمَها جُرْحًا عميقًا.

ولا يُدْرى أينَ أصابَها؛ إذ سالَ الدمُ غزيرًا.

وقامتْ وهي يضطربُ صدرُها؛ وقد اضطربَتْ نفسُها اضطرابًا شديدًا.

وتحوّلَ وجهُ ذُؤيب إلى كآبةٍ سوداءَ وهو يَنظرُ إلى السِّوارِ المحطَّم.

ثم اندفعَ، ورفعَ يدَه فلطَمَ وجهَها.

طَق!

"يا سَيِّئَةَ الأدبِ! أأُكْرِمُكِ فَتُهِينين؟!"

فخَرّتْ على صَفائحِ الحجرِ الباردِ، وقد خُدِشَتْ يدَاها، وانتفخَ خدُّها ببصمةِ الأصابع.

فلمّا رأى الناسُ يدَه تبطشُ سكتتِ الألسُنُ.

وبهيبتِه ارْتدّ الناسُ خطواتٍ.

ونظرتْ ميّاسةُ متألِّمةً، وحاولتِ الاستغاثةَ فلم ينبسْ فمُها.

وكان الناسُ يَشْحَذونَ أبصارَهم ثم يَصْرِفونَها؛ وبعضُهم انصرفَ عن المشهد.

وضحكَ ذُؤيبُ، وجثا، وحدّقَ في عينيها المُحْمَرَّتَيْن وقال ببرودٍ:

"ما دُمْتِ قد كَسَرْتِ السِّوار وقيمتُه ثلاثمائةِ مثقالٍ من الفضّة فادفعي المالَ، وإلّا فامضي معي عُرُوسًا!"

غيرَ أنّ ميّاسةَ القويّةَ العزيمةِ أَبَتْ أن تُظْهِرَ الضعف.

ومع لَظًى في خدِّها وألمٍ يَعْصِفُ بيدَيْها قالتْ مُتَجَلِّدةً:

"تنام كلبًا في حضن أمّك."

"ولئن متُّ مُصْطَدَمةً في هذا الموضعِ لا أتبعُكَ!"

فضحكَ ذُؤيبُ ازدراءً.

"هيهي، صبيّةٌ صَلْبة."

"هَيّا يا رِفاقُ خُذُوها!"

وما إن فرغَ من قولِه حتى التقطتْ ميّاسةُ الحجرَ المُلطّخَ دمًا وضربتْ به هامَتَه!

طَخ!

وتناثرتِ الدماءُ، وتهشّمَ أنفُ ذُؤيب، وغشيتْ وجهَه لحومٌ ودم.

وأرادتْ أن تهربَ؛ فقبضَ فتى من دارِ آلِ زاهر على شَعرِها وطرحَها!

"أتفرّين؟! يا ذُؤيبُ أأنتَ بخير؟"

وأخذتْ ميّاسةُ تُجاهِدُ: "اتركوني! اتركوني!"

غيرَ أنّ قوّةَ رجلَيْنِ شدّاها من جانِبَيْها، فما نَفَعَها جُهدٌ.

ونهضَ ذُؤيبُ مُسْتَنْدَدًا إلى أصحابه، والدمُ يُغَشّي عينيه، وألمُ أنفِه يذهبُ بعقلِه.

"لأقتلَنَّكِ!"

وقلبَ يَدَه فأخرجَ خنجرًا من كُمِّه، غيرَ أنّ يدَيْنِ اعترضتاه.

"رويدَك إنْ سفكتَ دمًا لم نقوَ على الجوابِ عندَ مولانا!"

فأخذَ نَفَسَه، وتردّدَ صدرُه، وحدّقَ في ميّاسةَ، ومسحَ الدمَ عن شفتِه وقال ببرودٍ:

"يا خبيثةُ… انتظري؛ فإذا فرغَ مولانا منكِ، تولّيتُ أنا أمرَك!"

"خُذُوها!"

فداخلَ ميّاسةَ فَزَعٌ شديدٌ وظلَّها اليأسُ.

"أغيثوني! باللهِ عليكم، لا أعرفُهم!"

"تلك العجوزُ منهم! قد أطعمتُها!"

"والسِّوارُ أَلْحَفَتْ به العجوزُ، أنْقِذوني!"

ولكنْ لم يُجِبْها أحدٌ؛ فما لأحدٍ قُدرةٌ على مُخاصمةِ آلِ زاهر.

وأعرضَ الناسُ عن صُراخِها.

وساقَ القومُ ميّاسةَ دافعينَ الناسَ أمامَهم إلى داخلِ البلدة.

ومهما احتكّت قدماها بالأرضِ لم يَخِفَّ قَبْضُ الرجال.

فجأةً!

رأتْ في ناظِرَيْها شخصًا ما عرَفَتْه أكثرَ من نفسِها…

فانحلَّ تماسكُها، وانفجرتْ ملامحُها بالمَظْلِمَةِ والكَمَد.

وجرى دمعُها اندفاعًا، وطبعتْ شفتَيْها لتكتمَ النحيب؛ فبدتْ كزَهْرَةٍ تُسْقيها السماء.

وكان عبدُ الرقيب على بُعدِ نحوِ مائة ذراع يَنظرُ إلى المشهدِ بوجهٍ كالسَّحابةِ السوداءِ.

وخاصةً حين رأى مِعْصمَها المُخْضَّبَ، وبصمةَ الكفِّ على خَدِّها.

فهاجَ الدمُ في رأسِه، وخَدِرَتْ أطرافُه، واحمرّتْ عيناهُ جَمْرًا.

ونظرَ ذُؤيبُ إلى الفتى قريبًا فعبسَ، وأخرجَ خنجرًا ومشى.

"مِنْ أيِّ متسوّلٍ أنت؟"

"انْفُذْ؛ ولا تتدخّلْ."

وارتعشَتْ شفتا عبدِ الرقيب، وتمتمَ خافتًا: "يا جدّاه، عَلَيَّ الملامةُ بعدَئذٍ…"

ثم ألقى إلى ميّاسةَ نظرةَ رأفةٍ، وارتسمتْ على وجهِه بَسمةٌ وَدُودٌ وقال خافتًا:

"يا ميّاسةُ، أغمضي عينَيْكِ؛ ولا تفتحيهما حتى آمُرَكِ."

فأطبقتْ شفتَيْها، وهزّتْ رأسَها إقرارًا، ثم أغمضتْ عينَيْها رويدًا.

ووضعَ عبدُ الرقيب الجَرارَ عن كتفِه، واشتدّتْ قبضتاهُ حتى صَفَقَ العظم.

وانبعثتْ في صدرِه رغبةُ القتلِ لمّا رأى ما نالَها؛ فما عادَ يملكُها!

ومع أنّ في القريةِ من يُبغضُه، ففيها من يُحِبُّه بحقّ!

وكانتْ ميّاسةُ، وإنْ لَسَنَتْه كلَّ يومٍ، تدّخرُ له نصيبًا من الطيّبِ في بيتِها.

فلوّحَ ذُؤيبُ بيده وقال غاضبًا: "اعطَبوه!"

وكانتْ لَدْغَةُ وجهِه تُؤَجِّجُ غَضَبَهُ؛ فجاءه عبدُ الرقيب شفاءَ غيظِه.

واندفعَ ثلاثةٌ نحوه دفعةً واحدة.

ولكنْ ما كانَ إلا أنْ دوّى عند آذانِهم وَقْعٌ مُثْقَل!
Patuloy na basahin ang aklat na ito nang libre
I-scan ang code upang i-download ang App

Pinakabagong kabanata

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل100

    عادَ فِتْيانُ طائفةِ سيفِ الصَّيْفِ الأكبرِ فقصّوا في القاعةِ العُظمى ما كانَ في قصرِ الحُلْمِ العُلويّ من أمرٍ لا يخفى ولا يُوارى. وكان في المجلسِ شيوخُ الذُّرى كافّةً، ومعهم السَّيّدُ لُكانُ بنُ كَرَّامَ، وناظر السُّنن على الأحكامِ قُدامةُ بنُ نُعمانٍ. ووقفَ نُعيمُ بنُ تَيْمٍ دونَ الدَّرَجِ إلى جانبِ عبدِ الرقيبِ وأصحابِه. ووجِلَ قلبُ عبدِ الرقيبِ — وقد أفنى من سائرِ الرُّقَع أربعَ طوائفَ — إذ فيمن هلكَ ذوو جذرٍ مَلِكيٍّ، وخشيَ أن تثورَ الثّأراتُ. فأشارَ لُكانُ بنُ كَرَّامَ بيدِه وقال: "لا تَهَبوا؛ إنّما هلكَ نفرٌ من التلاميذ." وقال: "ما كانَ في الحَوْزِ فإلى الحَوْزِ يُرَدّ؛ وقد سُنَّ هذا منذُ ألفِ عام." وقال: "فمن قَدَرَ عليكم فليَقْهَرْكم في الداخل؛ ومن قصّرَ فليس لهُ على أحدٍ طريق." وقال: "إنْ جاءوا، جاؤوا؛ وأنتم على سكونِكم، فالزَموا السُّقيا من العلمِ والزَّادَ من الرياضة." فسُرَّ عبدُ الرقيبِ سرورًا شديدًا، إذ رأى ظهرَ الطائفةِ أصلبَ من الحديدِ المَطروق. وانصرفَ القومُ، ونُعيمُ بنُ تَيْمٍ يضحكُ ملءَ فيه، فلمّا أحسَّ بنَفَسِ عبدِ الرقيبِ أغزرَ ولم يرَهُ قد عبرَ طورَ ال

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 99

    لعلّها صنائعُ تلامذتِهم هم أنفسُهم. قال رجلٌ من طائفةِ سيفِ أُلوفِ الخالدين ساكنُ الملامحِ متبسّمًا: "يُرى أنّ أوفَرَ الغنيمةِ هذه المرّةَ نحنُ أبناءَ الطوائفِ القلائل." "غير أنّي لا أدري أيَّ البيوتِ سيفقدُ تلامذةً." قهقهتْ امرأةٌ من رَواقِ سيفِ الأُفُقِ الأُرجوانيّ وقالت: "وبكلِّ حالٍ لن يكونوا أبناءَ رَواقِ سيفِ الأُفُقِ الأُرجوانيّ." "وبعدّةِ أولئك من طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر، فالظاهرُ أنّهم توارَوا في الحَوْزِ الخفيّ فسَلِموا." ولكنّهم مكثوا طويلًا فلم يخرجْ من أيِّ طائفةٍ أحدٌ. ضحكَ حُذيفةُ الحَكيم مُسَلِّيًا وقال: "هاه… هاها، لا بأس، لقد انصرفَ المُشوِّشون، ومن ثَمَّ فالظَّافرونَ يَخْلُصونَ للكنوزِ في الداخل." "أليسَ هذا مألوفًا؟ فلا تَهلَعوا." فهزَّ القومُ رؤوسَهم باسمين؛ إذ جَرَتِ العادةُ في مثلِ هذا الأوان أن يُقَلِّبَ الفائزونَ المغانمَ في الداخل. وما إن حلّقَ قومُ طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر في الجوِّ حتى قال عبدُ الرقيبِ خافتًا يحثّ: "يا شيختَنا غَيْثَ اللُّجّيّ، هل نزيدُ السُّرعةَ؟ فلنَنْصرفْ حالًا!" وكانتْ غَيْثُ اللُّجّيّ بعدُ غارقةً في غُمومِ مصرعِ رَباب،

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل98

    هُم! وقفَ شيوخُ الطوائفِ الستِّ في الساحةِ ووجوهُهم مشوبةٌ بالتوتّر. فكلُّ دخولٍ إلى الحَوْزِ الخفيِّ يجرُّ قتلى وجَرحى من التلاميذ. فضحكَ شيخٌ أحدبُ القامةِ من بابِ السَّبعِ أوتار خافتًا وقال: "لِمَ تُبدونَ الكآبةَ هكذا؟" "وهذه المرّةُ ونحن نرقبُ تموّجَه ليس الحَوْزُ بالعنيفِ، ولعلّهُ لا خطَرَ فيه." "وأرى… أنكم قد بالغتم في التهيّب." فتبسّمَ ساخرًا رجلٌ أَوْحَدُ العينِ من أبناءِ سيفِ أُلوفِ الخالدين في رداءٍ أبيض وقال: "هَه، ومن لا يدري أنّ الخطرَ بعدَ الدُّخولِ ليس من الحَوْزِ نفسِه؟" "غيرَ أنّ الستَّ قد اصطلحتْ منذُ قديمٍ: في الحَوْزِ — النفسُ مسؤولةٌ عن نفسِها." "فلا يَضِقْ صدرُ أحدٍ عندئذٍ، فيضحكَ الناسُ منه سِرًّا." ثمّ لم يملكْ طرفُهُ أن يرمقَ غيث بطرفٍ مُوارٍ. فرمقَهُ غيث اللُّجّيّ ببرودٍ وقالَ يردُّ: "يا حُذيفةَ الحَكيم، أتُلمِّحُ إلى طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر؟" "لا أدري من أينَ لك الجرأةُ كي تُلاسنَني بهذا التلوين!" "لو حضرَ نُعيمُ بنُ تَيْمٍ اليومَ أكنتَ لتقولَ هذا؟" "ولئن لم يَقلَعْ لك عينَك الأُخرى لَأعدُّكَ صُلبَ الحظِّ." فارتجفَ وجهُ حُذيفةَ وأشارَ إليهِ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 97

    امتدَّ الوِشاحُ الناموسيُّ الملوَّنُ جُنُونًا، فأحاطَ بأنور وقيسِ القُنَنِ في لَحْظَةٍ واحدة! "اعملوا! اقتلوهم!" وفي طَرْفةِ عينٍ اندفعتْ بُروقُ السيوفِ طاعنةً إلى الملتفَّيْنِ! فجأةً! وعلى صخرةٍ على بُعدِ نحوِ مائة ذراع تجلّتْ فجأةً هيئةٌ واحدة! وانفجرَ زئيرٌ غاضبٌ صادحٌ! "أتجترئون؟!" فلمّا بلغَ الصوتُ أسماعَ تلامذةِ الجهاتِ الثلاثِ اضطربتْ قلوبُهم وارتعدوا! "عَجِّلوا الضربَ! قد أتى!" طائفةُ سيفِ الصَّيفِ الأكبر — عبدُ الرقيبِ الليثي! ومشهدُهُ آنفًا وهو يُنازِلُ سبعةً وحدَهُ لا يَغْلِبُهُم ما يزالُ حاضرًا للأذهان. وفوقَ ذلك فكلُّ من في الساحةِ يُحِسُّ أنّ نَفَسَهُ اليومَ أضخمُ ممّا كانَ قبلُ! وفي لَحْظَةٍ انغرزتْ سيوفٌ عدّةٌ بعنفٍ في الوِشاحِ الملوَّن! وتحطَّمَتِ الصخرةُ تحتَ قدمَيْ عبدِ الرقيبِ، وانفجرتْ في الجوِّ هسيساتُ الرعدِ الدقيق! وأصحابُهُ من خَلْفِه يَجْهَدونَ في قَطْعِ الوِشاحِ فلا يَنْفَعُ، فلم يجدوا إلّا صَدَّ القومِ. ومع ذلكَ نفذتْ أربعُ سيوفٍ فغرزتْ في الوِشاحِ دفعةً! فَلَفَّ أنور السَّويّ جسدَهُ وحمى قيسَ القُنَنِ بظهرِه. ونفذتْ ثلاثُ سيوفٍ مُجتازةً، وأ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 96

    كان عبدُ الرقيبِ مُصابًا بالخَدَرِ، مُتَصَلِّبَ الجسدِ مُلقًى على المذبح؛ وتورَّمتْ عروقُ جبينِه وتصبَّبَ العَرَقُ الباردُ، وأصابعُه تتحرَّفُ ملتويّةً، وألمٌ كأنّ سكِّينًا يَشُقُّ الأحشاءَ شوّه ملامحَه. وتجلّدَ عن الوجعِ فشرعَ يُجري سِفرَ الرعدِ المُؤدِّبَ في تسعِ دَوراتٍ، فإذا الخيوطُ البرقيّةُ الدِّقاقُ في جوفِه تُسحَبُ شيئًا فشيئًا إلى حقلِ الطاقة. وكانتْ لَذْعاتُها تُفني الصبرَ، فعضَّ على نواجذِه وهدرَ خافتًا: "قُوَى الرعدِ الحقيرةُ — صَيِّرْنِيها صِرْفَ جوهرٍ!" "دَوِيّ!" ومع جريانِ البرقِ في الجسدِ تحوَّلَتِ الأقواسُ الصغارُ إلى خيوطٍ من القوّةِ الروحيّةِ شديدةِ الكثافة. "دَوِيّ!" ثمّ طَقَّ طَقًّا خفيفًا، فارتخى جِسمُه، وابتسمَ هامسًا: "الطبقةُ الثانيةُ عشرة!" واتّسعَ حقلُ الطاقةِ فوقَ ما كانَ بثلاثةِ الأعشار، حتى كأنّهُ لُجَّةٌ واسعة. وبعدَ بُرهةٍ نهضَ، فرأى التُّرسَ الناموسيَّ قد صارَ جُرْحًا على جُرْحٍ لا وَهَجَ له. وههنا تذكّرَ أن ينظرَ ما في خاتمِ الحفظ؛ فإذا فيه بيضةٌ أُرْجوانيّةٌ بقدرِ رأسِ إنسانٍ، ساكنةٌ تطفو، قد غُلّفتْ بقِشورٍ كاللُّبانِ الصُّنْبُريّ لونُ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 95

    نظرَ عبدُ الرقيبِ إلى موضعِ الإدراجِ على معراجِ نقلٍ، فوضعَ التميمةَ اليشبيّةَ التي بيده. هُمّ! فأومضَ المعراجُ بضوءٍ خافتٍ ولم يتبدّلْ شيء، فلمّا رأى مواضعَ إدراجٍ أخرى عَلِمَ الأمر. وفي لَفْتةٍ أدرجَ ستَّ عشرةَ لُجَيْنةً روحيّةً في المعراجِ، فتلألأ الرسمُ ولم يتحرّك. "أإلانةُ المعراجِ تستوجبُ لُجينًا من المنزلةِ الوسطى؟" قَقْ قَقْ! وحقًّا، لمّاعَ الضياءُ فاختفى خيالُ عبدِ الرقيبِ من الحجرةِ لِوَقْتِه. طَقْ طَقْ قَقْ قَقْ! وما إن فَتَحَ عينيه حتى أيقظتْهُ لَذْعاتٌ في سائرِ جسدِه. فرأى نفسَه قائمًا على مِذْبحٍ عتيق! وحولَهُ تنتشرُ الصواعقُ إلى الآفاق؛ وخيوطُها الدقيقةُ إذا لامستْهُ أرجفتْ بدنَه. ورفعَ طرفَهُ فإذا فوقَ المذبحِ كأنّه غديرُ رعدٍ. وفي وسطِ الغديرِ شيءٌ كأنّهُ يَجْذِبُ قوى الرعودِ إليه. وإذا روحُ السيفِ تظهرُ ببطءٍ في هذهِ الساعة! ومعلومٌ أنّ ظهورَها يستهلكُ قُوًى جمّةً، فلا تُبدي ذاتَها هيّنًا. فقالَ عبدُ الرقيبِ: "ما هذا الشيء؟" قالتْ وهي تُثبّتُ طرفَها في صواعقِ قلبِ المذبحِ هامسةً: "كيفَ يظهرُ هذا في عالمِ الأرواحِ البشريّة؟" فقالَ مُقْعِدًا حاجبَيْه: "

Higit pang Kabanata
Galugarin at basahin ang magagandang nobela
Libreng basahin ang magagandang nobela sa GoodNovel app. I-download ang mga librong gusto mo at basahin kahit saan at anumang oras.
Libreng basahin ang mga aklat sa app
I-scan ang code para mabasa sa App
DMCA.com Protection Status