Share

الفصل4

Author: اليمامة المباركة
طريقُ قريةِ السَّعْدِ المَديد في رؤوسِ الجبالِ وعرٌ ضيّقٌ؛ غيرَ أنّه بدا لعبدِ الرقيبِ الليثي سهلًا معبَّدًا.

لقد لا يدري كم مرّةً قطع هذا السبيل؛ فكلُّ من في القريةِ يطلبُ الشرابَ إنّما يعهدُ إليه أن ينزلَ إلى البلدةِ فيأتي به.

وانحدارُه سريعٌ؛ فلـمّا علتِ الشمسُ قيدَ رُمْحٍ كان قد قاربَ "بلدةَ النّماءِ".

وتمادى نَفَسُ عبدِ الرقيب، وخرج العرقُ قليلًا من جبينه، ولمّا لاحَتِ البلدةُ على مبعدةِ أميالٍ تبسّمَ طرفَ فمه.

"قد بلغنا — وهذه المرّةُ أسرعُ من سالفِها."

وما كادتِ الكلمةُ تقعُ حتى اندفعَ جسمُه كالسهمِ يُفلَتُ من وترٍ.

بلدةُ النّماءِ" بلدةٌ كبيرةٌ سكانُها نحوُ مئتي ألفٍ ونيف.

وكانت حافّتا الطريقِ مملوءتينِ نِداءَ الباعةِ، وفي يومِ السُّوقِ كانت البلدةُ أَشَدَّ صَخَبًا.

وفتاةٌ في ثوبٍ أزرقَ فاتحٍ تنظرُ ههنا وههنا — وقد بهتَ لونُ الثوبِ من طُولِ الغسل.

وكانت ميّاسةُ الودود تحملُ بُرًّا ودقيقًا وزيتًا؛ وقد لَحَّت طويلًا حتى أذِن لها أبواها أن تهبطَ إلى البلدة.

"يا عمَّاه، بِكَمْ هذا الكَعْكُ؟"

"يا صبيّةُ، بفلسٍ واحد."

"أبهذا الرُّخص؟ أعطني ثلاثَ قطعٍ، لا… بل أربعًا."

وكانت الصبيّةُ تُدْمِنُ الهَمْسَ لا تدري ما تُفكّر؛ وقد طفَتْ في خاطرِها صورةُ ذاك الذي يَغْتَدي على طعامِ الناس.

فلمّا ذكرتْ ذلك الأعمى غَضِبَتْ وضربتِ الأرضَ برجلِها.

"هِه! لو شَمَّه بأنفِه لقال: لم تشتري لي!"

وأسرعَ الشيخُ فلفَّ كعك الأرزِّ في ورقِ جِلْدِ ثور.

فأخذتْه وشكرتْ، ومضت مسرورةً نحوَ خارجِ البلدة.

وفي الوقتِ نفسِه كان عبدُ الرقيب على مبعدةِ كيلومترين أو ثلاثة كيلومترات من "بلدةِ النّماءِ"، ولا يدري أنّ ميّاسةَ قد هبطتْ هذه المرّة.

فجأةً!

سمعت ميّاسةُ خلفَها في الطريقِ صياحًا مضطربًا.

فإذا فتىً وسيمُ الوجهِ في حُلّةٍ موشّاةٍ من أبيضَ وأزرقَ واقفٌ مُسْتَثْقِلًا الناسَ في نظرِه.

وقد جمع يديهِ وراءَ ظهرِه يُلاعبُ مِذَبَّتَه المطويّة، وفي نظرِه كِبْرٌ.

وقلّبَ حاجبَه؛ وكان إذا نظرَ إلى الشيخِ الأشيبِ بدا عليه الاشمئزاز.

ووقفَ خَدَمُه يحوطونَه، ثم دَفَع أربعةٌ أو خمسةٌ فقلَبوا "بسطةَ كعكِ الأرز".

وداسوا ما تفورُ به الأطباقُ حتى أفسدوه.

فخرَّ الشيخُ على ركبتيه، واحمرّتْ أجفانُه، ومدَّ يدَه لِيَذُبَّ عن كعكاتِه.

"رويدًا… لا تدُسُّوا… لا تدُسُّوا!"

"فهذه… كلُّها حديثةُ الصُّنع!"

طَخ!

وركلَه أولئك الأشرارُ فَطَرَحوه؛ وقال أحدُهم في شراسةٍ.

"يا هَرِمُ، أتَبْسُطُ بضاعتَكَ ولا تؤدّي المالَ؟"

"أما تعلمُ أن هذه الناحيةَ قد اشتراها آلُ زاهر؟!"

فانبعثتْ ألسنةٌ تَلُوم، ثم لم تلبثْ أن سكتت.

وكان الخَدَمُ يُحَدِّقون في كلِّ ناطقٍ نظرًا قاسيًا؛ فسكتَ الناسُ.

ورأت ميّاسةُ من خلالِ الزِّحامِ أنّ المطروحَ هو نفسُه الذي باعَها آنفًا الكعك.

فلمعَ الغضبُ في وجهِها، وحدّجتِ الفتى بنظرةٍ واحدةٍ، ثم أمسكتْ عن القول.

وقد حفظتْ وصيّةَ الأعمى: "في التِّيهِ الغريبِ قلِّلِ الشأنَ، ودَعِ الفضول."

وكانت تعلمُ أنّ يدَها قاصرةٌ عن التغيير؛ فتنفّستْ أسًى واستدارت راجعةً.

غيرَ أنّ هذه الالتفاتةَ رآها برهانُ الزاهري!

وكان قد ساءه أن نُفِيَ إلى هذا الموضعِ المُقْفِر؛ فما ظنَّ أن يرى فيه صبيّةً ذاتَ طِباعٍ كريمة.

وصبيّةٌ في الثالثةِ عشرةَ أو الرابعةِ عشرةَ قد أتمّتْ قَوامَها، وبينَ حاجبَيْها براءةٌ طريّة.

وليستْ كِسائرِ مَنْ يَلْعَبُ بهنّ من بناتِ الطُّرُق!

"يا ذُؤيبُ، قد هَوِيتُ تلك الفتاةَ؛ اتبعْها!"

فرفعَ خادمٌ خبيثُ المنظرِ طرفَه ونظرَ إلى ميّاسةَ المُدْبِرَة، ففهمَ لِوَقتِه.

وبدأ يَزِنُ لباسَها وما تحملُه؛ فرآها ليستْ من أهلِ اليسار، ومثلُ هذه أسرعُ ما تُصاد.

وكان ذُؤيبُ قصيرًا هزيلًا منحنِيَ المتن؛ لا يسترُ قُبْحَهُ تَبَسُّمٌ.

فهزَّ رأسَهُ مُسرِعًا وقال: "طِبْ نفسًا يا مولاي؛ أُنجِزُها الساعة!"

وابتسمَ برهانُ طرفَ فمه، واضطربتْ نفسُه، وكاد يتخيّلُ ما بعدَها.

ولَطَمَ ذُؤيبًا بمِذَبَّتِه على هامَتِه ثم قال خافتًا: "أحْسِنِ الصُّنْع."

وبينما هو يتكلّمُ أخرجَ من كُمِّه سبيكةَ ذهبٍ كبيرةً فرمى بها إلى ذُؤيب: "وما بقي فهو لك."

فأشرقَ جفنُ ذُؤيب، وهزَّ رأسَه مُسرِعًا.

"انْفُضُوا! ماذا تُحْدِقون؟ تفرّقوا!"

فلمّا انصرفَ برهانُ، اعتدلَ ذُؤيبُ قليلًا، ثم ركلَ عربةَ الشيخِ فأسقطَها، وهو يضحكُ ساخرًا.

"اعلمْ: الكِراءُ في الشهرِ ثلاث مائة فلس."

"فإن لم تُؤَدِّ فلا تبسطْ متاعَك؛ وإن بسطتَ كسرتُّه كلَّ مرّة!"

وكان الشيخُ مُمْتَقَعَ الوجهِ شَعِثَ الشَّعرِ، فلم يأبَهْ لِدَمِه، ومسحهُ بكمِّه، وقال مُتَحَيِّرًا.

"يا… يا مولاي…"

"ألَمْ يكن في الشهرِ مائة فلس؟"

"كيف… كيف زِدْتُموه هذا الازديادَ في يومَيْن؟!"

فالتقطَ ذُؤيبُ كعكةً مَدْعوسةً من الأرضِ وحَشَاها في فمِ الشيخِ، ومَالَ بعُنقِه وقال في قسوةٍ.

"مائة فلس؟"

"هه! أإخواني لا يأكلون؟"

فابتلعَ الشيخُ الكعكةَ الممزوجةَ بالطِّينِ ذُلًّا، وهزَّ رأسَه مرارًا.

"نعم نعم؛ قد علمتُ…"

"هاهاهاها، ما أكرمَك يا ذُؤيب."

"ويحَك! أتعلمُ ما قاله مولانا آنفًا؟"

فابتسمَ ذُؤيب، ولوّحَ بـ"السبيكة الذهبية الكبيرة" أمامَهم.

"امْضوا؛ أما قُبِضَ في المدينةِ منذ قريبٍ على عجوزٍ تتَّجرُ بالبشر؟"

"ما اسمُها؟ الخالةُ مي؟ ائتوني بها."

"واذهبْ آخرُكم فتلطَّفْ حتى تُشغِلَ تلك الصبيّة."

فأطاعوه سريعًا.

وأظهرَ ذُؤيبُ أسنانًا صفراءَ، وانحنى وهو يلحسُ شفتَيه.

وكان قد لمحَ تلك الفتاةَ من قبلُ؛ ولولا برهانُ لَسَبَقَ إليها.

لكنّه… يعلمُ طبعَ مولاه؛ فلعلّ له ولإخوانِه فيها نصيبًا بعدُ!

"هيهي، ما أَرَقَّها…"

ولم تلبثْ ميّاسةُ أن أحسّت أمرًا غريبًا؛ كأنّ قومًا يَعْتَرِضونَ طريقَها حيث سارت.

ومهما دارتْ لم تتخلّصْ منهم.

وانبعثَ في قلبِها قَلَقٌ لا يُعرَفُ مأتاه…

وفي زُقاقٍ مظلمٍ مُنْهَدِمٍ نظرَ ذُؤيبُ إلى عجوزٍ وَدُودةِ القسمات، فقبضَ حاجبَيْه.

ثم قال لمن إلى جانبه: "أأنتَ واثقٌ أنّها هي الخالةُ مي؟"

"كيفَ تبدو هكذا طيبةَ السِّيماء…؟"

فقالت العجوزُ بصوتٍ ليّن: "يا مولاي لا تعرفُ صَنْعَتَنا."

"لو لم نكنْ هكذا… فكيفَ يَقَعُ الناسُ في الشَّرَك؟"

"استدرارُ الرِّقّةِ أوّلُ أركانِ عملِنا."

فبدا في وجهِ ذُؤيب لَهْوٌ وقال صريحًا: "إذًا عليكِ الأمرُ؛ فإذا أَحْسَنْتِ فلكِ جُعْلٌ قدرُه ثلاثون مثقالاً من الفضة."

فانقدحتْ في عينِ العجوزِ لمعةٌ، وهزّتْ رأسَها رِضًا.

ثم أخرجتْ من صُرّتِها ثوبًا مُخَرَّقًا نتنَ الرائحةِ فلبستْه.

وخَضْخَضَتْ شعرَها المنسَّقَ، ومرغتْ كفَّيْها في الأرضِ، ولم تَدَعِ الأظفارَ — ثم لطّختْ وجهَها دَرَنًا.

فلمّا نظرَ ذُؤيبٌ إلى هيئتِها الآنَ وجدَ البونَ بعيدًا بين قبلُ وبعدُ.

فإنْ كانتْ آنفًا جَدَّةً من بيوتِ السيادة فهي الآنَ جَدَّةٌ مُنْكَرَةٌ نازلةُ الحال.

حتى ذُؤيبٌ الذي طالَ اختلاطُهُ بأصنافِ الناسِ رفعَ إبهامَه إعجابًا.

ودخلَ عبدُ الرقيبِ البلدةَ طروبًا، فأسرعَ إلى حانوتِ الشراب.

ولمّا رآه رجلٌ في أوسطِ العمرِ ممتلئٌ قليلًا لم يُبدِ احتقارًا كما يُظَنّ.

بل رحّبَ به وقال ضاحكًا: "هاها، يا أعمى، لقد أبطأتَ عنّا!"

فلم يملكْ عبدُ الرقيب أن يمزحَ لمّا سمعَ حفاوته.

"يا زاهرَ الموفّق، ما شاءَ اللهُ قد لَقِيَتَ من الرزقِ خصبًا؛ وزدتَ سِمَنًا؟"

فلم يغضب صاحبُ الحانوت؛ بل كان يَعُدُّ عبدَ الرقيب شخصًا ذا فضلٍ عليه.

فمنذ صارَ يبتاعُ منه الشرابَ أقبلَتِ التجارةُ عليه، واتّسعتْ دكّانُه.

وبالمراجعةِ طالَتْ بينهما الأُلفة.

ومدَّ زاهرُ الموفّقُ حفنةً من حبٍّ مُحمَّصٍ وقال: "على عادتِك؟"

ففكّر عبدُ الرقيب، وقد كان وعدَ العمَّ مُنْجى بشرابٍ، ثم قالَ مُسْرِعًا: "أربعُ جرارٍ من نبيذٍ مُعَطَّر."

فهزَّ زاهرٌ رأسَه، ونادى عاليًا: "للعميلِ القديمِ — أربعُ جرارٍ!"

فقال عبدُ الرقيب ساخرًا: "هه، تُعلِنُها: العميلُ القديمُ! أتخشى أن يَلْعَبَ فِتْيانُك بالماءِ؟"

فارتاعَ زاهرُ وقال وهو يُلوِّحُ بيدِه:

"إيّاك! لا تقلْ هذا؛ كيفَ أجترِئ؟"

"مَعَاشي على الصدق؛ وما النداءُ إلا هزلًا…"

واتّكأ عبدُ الرقيب على الطّبْلةِ يأكلُ من القَرْع، ويُسامِرُ زاهرًا هنيهةً بعد هنيهة.

وبين الفُرَجِ في الناسِ رأى في الجهةِ الأخرى الشيخَ يجمعُ بقايا ما فُسِد.

فقبضَ حاجبَه وهو يراه.

ثم قال خُفْيًا لزاهر: "يا زاهر، ما بالُ العمِّ سليمٍ؟ كيف قُلِبَتْ بَسْطَتُه؟"

فتنهّدَ زاهر؛ فقد شهدَ ما كان — ومَوْقِعُ حانوتِه أرفعُ.

"واهًا… لا تذكرْ."

"هذه الشوارعُ الثلاثُ قد اشتراها قومٌ من آلِ زاهر."

"وما إن استولَوا حتى ضاعفوا الكِراءَ مرّتينِ وزيادة!"

"فنحنُ نُفكّرُ في التحوّلِ عن هذه الدُّور."

فضيّقَ عبدُ الرقيب عينيه وقال مُخافتًا: "آلُ زاهر؟"

ثم لم يطلْ الوقوفَ عندها، وأصغى إلى خبرِ ما وقع.

فلما فرغَ قال:

"قومٌ جَفاةٌ! أما يخشَونَ أن تتركوا الدُّورَ لهم فتخلو؟"

فضمَّ زاهرُ كُمَّيه وقال ضَجِرًا: "مَن يدري؟"

"أمّا أنا فأحوّلُ دكّاني ولو بنقصِ الرِّبح؛ فمَن يحتملُ هذا الكِراء؟!"

"يا مولاي، قد تَمَّتِ الجرارُ الأربع."

فنظرَ عبدُ الرقيب إلى الجرارِ وقد صَغُرَتْ قليلًا وقال شاتمًا: "يا لئيمُ! لم تُنقِصِ الجودةَ، بل الكَيْل؟!"

فاحمرّ وجهُ زاهر، وردَّ بعضَ الأموال إلى يدِ عبدِ الرقيب.

"هيهات؛ ما لي حيلةٌ…"

فأخذَ عبدُ الرقيب المالَ وهزَّ الجرارَ وقال ناصحًا: "هكذا لا تكونُ التجارةُ يا زاهر."

"أمضي إلى العمِّ سليم."

فبان الحياءُ في وجهِ زاهرَ وتأوَّه، ثم التفتَ إلى الفِتى وقال.

"بدّل!"

"هاه؟ ماذا نبدّل؟"

"الجرارَ! ماذا… يا ثَقيلَ الفَهْم."

"أو… أوه! على فكرةِ أحسبُ تلك الصبيّةَ ذاتَ الثوبِ الأزرقِ قد ساء حالُها…"

"اصمُتْ! إياكَ أن تَذْكُر!"

وأدارَ زاهرُ عينيه في الناسِ حذرًا؛ فإنّه وإن باحَ لعبدِ الرقيب، لا يَجْسُرُ على مُنازعةِ آلِ زاهر!

فوقفَ عبدُ الرقيب فجأةً، واستدارَ إلى الخادمِ وقال عابسًا: "أيُّ صبيّةٍ في ثوبٍ أزرق؟"

"ما شأنُها؟"
Continue to read this book for free
Scan code to download App

Latest chapter

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل100

    عادَ فِتْيانُ طائفةِ سيفِ الصَّيْفِ الأكبرِ فقصّوا في القاعةِ العُظمى ما كانَ في قصرِ الحُلْمِ العُلويّ من أمرٍ لا يخفى ولا يُوارى. وكان في المجلسِ شيوخُ الذُّرى كافّةً، ومعهم السَّيّدُ لُكانُ بنُ كَرَّامَ، وناظر السُّنن على الأحكامِ قُدامةُ بنُ نُعمانٍ. ووقفَ نُعيمُ بنُ تَيْمٍ دونَ الدَّرَجِ إلى جانبِ عبدِ الرقيبِ وأصحابِه. ووجِلَ قلبُ عبدِ الرقيبِ — وقد أفنى من سائرِ الرُّقَع أربعَ طوائفَ — إذ فيمن هلكَ ذوو جذرٍ مَلِكيٍّ، وخشيَ أن تثورَ الثّأراتُ. فأشارَ لُكانُ بنُ كَرَّامَ بيدِه وقال: "لا تَهَبوا؛ إنّما هلكَ نفرٌ من التلاميذ." وقال: "ما كانَ في الحَوْزِ فإلى الحَوْزِ يُرَدّ؛ وقد سُنَّ هذا منذُ ألفِ عام." وقال: "فمن قَدَرَ عليكم فليَقْهَرْكم في الداخل؛ ومن قصّرَ فليس لهُ على أحدٍ طريق." وقال: "إنْ جاءوا، جاؤوا؛ وأنتم على سكونِكم، فالزَموا السُّقيا من العلمِ والزَّادَ من الرياضة." فسُرَّ عبدُ الرقيبِ سرورًا شديدًا، إذ رأى ظهرَ الطائفةِ أصلبَ من الحديدِ المَطروق. وانصرفَ القومُ، ونُعيمُ بنُ تَيْمٍ يضحكُ ملءَ فيه، فلمّا أحسَّ بنَفَسِ عبدِ الرقيبِ أغزرَ ولم يرَهُ قد عبرَ طورَ ال

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 99

    لعلّها صنائعُ تلامذتِهم هم أنفسُهم. قال رجلٌ من طائفةِ سيفِ أُلوفِ الخالدين ساكنُ الملامحِ متبسّمًا: "يُرى أنّ أوفَرَ الغنيمةِ هذه المرّةَ نحنُ أبناءَ الطوائفِ القلائل." "غير أنّي لا أدري أيَّ البيوتِ سيفقدُ تلامذةً." قهقهتْ امرأةٌ من رَواقِ سيفِ الأُفُقِ الأُرجوانيّ وقالت: "وبكلِّ حالٍ لن يكونوا أبناءَ رَواقِ سيفِ الأُفُقِ الأُرجوانيّ." "وبعدّةِ أولئك من طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر، فالظاهرُ أنّهم توارَوا في الحَوْزِ الخفيّ فسَلِموا." ولكنّهم مكثوا طويلًا فلم يخرجْ من أيِّ طائفةٍ أحدٌ. ضحكَ حُذيفةُ الحَكيم مُسَلِّيًا وقال: "هاه… هاها، لا بأس، لقد انصرفَ المُشوِّشون، ومن ثَمَّ فالظَّافرونَ يَخْلُصونَ للكنوزِ في الداخل." "أليسَ هذا مألوفًا؟ فلا تَهلَعوا." فهزَّ القومُ رؤوسَهم باسمين؛ إذ جَرَتِ العادةُ في مثلِ هذا الأوان أن يُقَلِّبَ الفائزونَ المغانمَ في الداخل. وما إن حلّقَ قومُ طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر في الجوِّ حتى قال عبدُ الرقيبِ خافتًا يحثّ: "يا شيختَنا غَيْثَ اللُّجّيّ، هل نزيدُ السُّرعةَ؟ فلنَنْصرفْ حالًا!" وكانتْ غَيْثُ اللُّجّيّ بعدُ غارقةً في غُمومِ مصرعِ رَباب،

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل98

    هُم! وقفَ شيوخُ الطوائفِ الستِّ في الساحةِ ووجوهُهم مشوبةٌ بالتوتّر. فكلُّ دخولٍ إلى الحَوْزِ الخفيِّ يجرُّ قتلى وجَرحى من التلاميذ. فضحكَ شيخٌ أحدبُ القامةِ من بابِ السَّبعِ أوتار خافتًا وقال: "لِمَ تُبدونَ الكآبةَ هكذا؟" "وهذه المرّةُ ونحن نرقبُ تموّجَه ليس الحَوْزُ بالعنيفِ، ولعلّهُ لا خطَرَ فيه." "وأرى… أنكم قد بالغتم في التهيّب." فتبسّمَ ساخرًا رجلٌ أَوْحَدُ العينِ من أبناءِ سيفِ أُلوفِ الخالدين في رداءٍ أبيض وقال: "هَه، ومن لا يدري أنّ الخطرَ بعدَ الدُّخولِ ليس من الحَوْزِ نفسِه؟" "غيرَ أنّ الستَّ قد اصطلحتْ منذُ قديمٍ: في الحَوْزِ — النفسُ مسؤولةٌ عن نفسِها." "فلا يَضِقْ صدرُ أحدٍ عندئذٍ، فيضحكَ الناسُ منه سِرًّا." ثمّ لم يملكْ طرفُهُ أن يرمقَ غيث بطرفٍ مُوارٍ. فرمقَهُ غيث اللُّجّيّ ببرودٍ وقالَ يردُّ: "يا حُذيفةَ الحَكيم، أتُلمِّحُ إلى طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر؟" "لا أدري من أينَ لك الجرأةُ كي تُلاسنَني بهذا التلوين!" "لو حضرَ نُعيمُ بنُ تَيْمٍ اليومَ أكنتَ لتقولَ هذا؟" "ولئن لم يَقلَعْ لك عينَك الأُخرى لَأعدُّكَ صُلبَ الحظِّ." فارتجفَ وجهُ حُذيفةَ وأشارَ إليهِ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 97

    امتدَّ الوِشاحُ الناموسيُّ الملوَّنُ جُنُونًا، فأحاطَ بأنور وقيسِ القُنَنِ في لَحْظَةٍ واحدة! "اعملوا! اقتلوهم!" وفي طَرْفةِ عينٍ اندفعتْ بُروقُ السيوفِ طاعنةً إلى الملتفَّيْنِ! فجأةً! وعلى صخرةٍ على بُعدِ نحوِ مائة ذراع تجلّتْ فجأةً هيئةٌ واحدة! وانفجرَ زئيرٌ غاضبٌ صادحٌ! "أتجترئون؟!" فلمّا بلغَ الصوتُ أسماعَ تلامذةِ الجهاتِ الثلاثِ اضطربتْ قلوبُهم وارتعدوا! "عَجِّلوا الضربَ! قد أتى!" طائفةُ سيفِ الصَّيفِ الأكبر — عبدُ الرقيبِ الليثي! ومشهدُهُ آنفًا وهو يُنازِلُ سبعةً وحدَهُ لا يَغْلِبُهُم ما يزالُ حاضرًا للأذهان. وفوقَ ذلك فكلُّ من في الساحةِ يُحِسُّ أنّ نَفَسَهُ اليومَ أضخمُ ممّا كانَ قبلُ! وفي لَحْظَةٍ انغرزتْ سيوفٌ عدّةٌ بعنفٍ في الوِشاحِ الملوَّن! وتحطَّمَتِ الصخرةُ تحتَ قدمَيْ عبدِ الرقيبِ، وانفجرتْ في الجوِّ هسيساتُ الرعدِ الدقيق! وأصحابُهُ من خَلْفِه يَجْهَدونَ في قَطْعِ الوِشاحِ فلا يَنْفَعُ، فلم يجدوا إلّا صَدَّ القومِ. ومع ذلكَ نفذتْ أربعُ سيوفٍ فغرزتْ في الوِشاحِ دفعةً! فَلَفَّ أنور السَّويّ جسدَهُ وحمى قيسَ القُنَنِ بظهرِه. ونفذتْ ثلاثُ سيوفٍ مُجتازةً، وأ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 96

    كان عبدُ الرقيبِ مُصابًا بالخَدَرِ، مُتَصَلِّبَ الجسدِ مُلقًى على المذبح؛ وتورَّمتْ عروقُ جبينِه وتصبَّبَ العَرَقُ الباردُ، وأصابعُه تتحرَّفُ ملتويّةً، وألمٌ كأنّ سكِّينًا يَشُقُّ الأحشاءَ شوّه ملامحَه. وتجلّدَ عن الوجعِ فشرعَ يُجري سِفرَ الرعدِ المُؤدِّبَ في تسعِ دَوراتٍ، فإذا الخيوطُ البرقيّةُ الدِّقاقُ في جوفِه تُسحَبُ شيئًا فشيئًا إلى حقلِ الطاقة. وكانتْ لَذْعاتُها تُفني الصبرَ، فعضَّ على نواجذِه وهدرَ خافتًا: "قُوَى الرعدِ الحقيرةُ — صَيِّرْنِيها صِرْفَ جوهرٍ!" "دَوِيّ!" ومع جريانِ البرقِ في الجسدِ تحوَّلَتِ الأقواسُ الصغارُ إلى خيوطٍ من القوّةِ الروحيّةِ شديدةِ الكثافة. "دَوِيّ!" ثمّ طَقَّ طَقًّا خفيفًا، فارتخى جِسمُه، وابتسمَ هامسًا: "الطبقةُ الثانيةُ عشرة!" واتّسعَ حقلُ الطاقةِ فوقَ ما كانَ بثلاثةِ الأعشار، حتى كأنّهُ لُجَّةٌ واسعة. وبعدَ بُرهةٍ نهضَ، فرأى التُّرسَ الناموسيَّ قد صارَ جُرْحًا على جُرْحٍ لا وَهَجَ له. وههنا تذكّرَ أن ينظرَ ما في خاتمِ الحفظ؛ فإذا فيه بيضةٌ أُرْجوانيّةٌ بقدرِ رأسِ إنسانٍ، ساكنةٌ تطفو، قد غُلّفتْ بقِشورٍ كاللُّبانِ الصُّنْبُريّ لونُ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 95

    نظرَ عبدُ الرقيبِ إلى موضعِ الإدراجِ على معراجِ نقلٍ، فوضعَ التميمةَ اليشبيّةَ التي بيده. هُمّ! فأومضَ المعراجُ بضوءٍ خافتٍ ولم يتبدّلْ شيء، فلمّا رأى مواضعَ إدراجٍ أخرى عَلِمَ الأمر. وفي لَفْتةٍ أدرجَ ستَّ عشرةَ لُجَيْنةً روحيّةً في المعراجِ، فتلألأ الرسمُ ولم يتحرّك. "أإلانةُ المعراجِ تستوجبُ لُجينًا من المنزلةِ الوسطى؟" قَقْ قَقْ! وحقًّا، لمّاعَ الضياءُ فاختفى خيالُ عبدِ الرقيبِ من الحجرةِ لِوَقْتِه. طَقْ طَقْ قَقْ قَقْ! وما إن فَتَحَ عينيه حتى أيقظتْهُ لَذْعاتٌ في سائرِ جسدِه. فرأى نفسَه قائمًا على مِذْبحٍ عتيق! وحولَهُ تنتشرُ الصواعقُ إلى الآفاق؛ وخيوطُها الدقيقةُ إذا لامستْهُ أرجفتْ بدنَه. ورفعَ طرفَهُ فإذا فوقَ المذبحِ كأنّه غديرُ رعدٍ. وفي وسطِ الغديرِ شيءٌ كأنّهُ يَجْذِبُ قوى الرعودِ إليه. وإذا روحُ السيفِ تظهرُ ببطءٍ في هذهِ الساعة! ومعلومٌ أنّ ظهورَها يستهلكُ قُوًى جمّةً، فلا تُبدي ذاتَها هيّنًا. فقالَ عبدُ الرقيبِ: "ما هذا الشيء؟" قالتْ وهي تُثبّتُ طرفَها في صواعقِ قلبِ المذبحِ هامسةً: "كيفَ يظهرُ هذا في عالمِ الأرواحِ البشريّة؟" فقالَ مُقْعِدًا حاجبَيْه: "

More Chapters
Explore and read good novels for free
Free access to a vast number of good novels on GoodNovel app. Download the books you like and read anywhere & anytime.
Read books for free on the app
SCAN CODE TO READ ON APP
DMCA.com Protection Status