Share

الفصل 6

Author: اليمامة المباركة
دَوِيّ!

وإذا طوب رمادي تحت قدمي عبدِ الرقيب ينفجرُ فجأةً.

وحَدَّقَ ذُؤيب، فأدرك أنّ عبدَ الرقيب قد يكونُ سالكًا من أهل التزكية والقوى الخفية!

غيرَ أنّ إدراكَه جاء متأخرًا — فعلى بُعدِ عشرِ قاماتٍ لم يرَ الناسُ إلّا ظلًّا انقضَّ في لمحٍ!

طَخّ!

انخفضَ عبدُ الرقيب فتجنّبَ خنجرَ ذُؤيب، ثم هوى بقبضتِه كالمِطرقة على ذقنه.

وسمع الحاضرون طقطةَ العظمِ تتكسّر واضحةً عند آذانهم.

وكانتْ ضربتُه الغاضبة هائلةً، فحطّمَت ذقنَ ذُؤيب، فطار جسدُه في الهواء!

ثم قبض بيسراه عظامَ يده اليمنى، وانتزع الخنجر وطعنه به مرارًا!

وتفجّرت دماءٌ حارّةٌ على وجهِ عبدِ الرقيب، غيرَ أنّ سِمتَه بقيتْ ساكنةً من أوّلِ الأمر إلى آخرِه.

فقد عَقَد العزمَ على القتلِ ساعةَ حرّكَ يدَه!

وشخصتْ عينا ذُؤيب، وانكمشت الحدقةُ حتى صارتْ كَسِنِّ الإبرةِ ترتعدُ جنونًا.

وما كان يصدّقُ ما يرى وهو يحسُّ الحياةَ تتسرّبُ منه…

"آه! يا ذُؤيب!"

قلبَ عبدُ الرقيب الخنجرَ في يمناه، وتموّجَ جسمُه فغابَ عن موضعه ووقف بإزاءِ آخر.

فنظر الرجلُ إليه رُعبًا، كأنّه يتشدّدُ لنفسه، ثم هاج عليه ضربًا.

"اذهبْ إلى الهلاك!"

فلقِيَ قبضتَهُ بقبضةٍ أدهى منها!

فانكسرتْ ذراعُ الرجلِ لوقتها، وبدا العظمُ يشقُّ الجلدَ قانيًا.

وتقدّم خطوةً، وجال الخنجرُ صعودًا وهبوطًا، ثم نهضَ به من تحتِ الفكِّ إلى الفمِ طعنًا.

ثم وثبَ في الهواء وركلَ رأسَه، واجتذبَ الخنجرَ وقذفه وراءه.

فِق!

فنفذ الخنجرُ الماضي في النقرةِ بين حاجبيه.

وما كاد يقعُ حتى جذبَ الخنجرَ ثانيةً ورماهُ نحوَ جهةِ ميّاسة.

تتابعتِ الحركاتُ كالسيل، فقتلَ ثلاثةً في أنفاسٍ معدودات!

ففزع الناسُ حوله، وهاجوا هربًا متفرّقين.

وبقي عبدُ الرقيب هادئًا وذلك من أثرِ تعليمِ سُهيلٍ الغامض وتأديبه.

وأمّا ميّاسةُ فكانتْ تسمعُ الصراخَ والدويَّ ولا تدري ما جرى.

وأربكها اضطرابُ الناس، غيرَ أنّها تذكّرتْ قولَ عبدِ الرقيب.

فجأةً!

خَفَّ الثِّقَلُ عن كتفِها الأيسر، وطارَ الرجلُ كالقِربةِ الخَلِقةِ فحطّم بابًا خلفَه وسقطَ لا يقوم.

وأخرج آخرُهم قِطعةَ خيزرانٍ للشرارة، فأشعلها فارتفعَ ضوؤُها ثلاثينَ ذراعًا وانفجرتْ!

وضيّقَ عبدُ الرقيب عينيه: "مشعلُ إشارةٍ ناريّة…"

وسحقَ ذراعَهُ بقبضةٍ واحدةٍ، ولمعَ بردُ الخنجرِ عند عنقه خطفةً ومضى!

فاضطربَ نفسُ ميّاسة قليلًا، ثم سادَ السكون.

وهمّت أن تتكلّم، فإذا بصوتِ عبدِ الرقيب الرؤوفِ عند أذنها: "حَسْبُكِ؛ هَلُمّي نَمْضِ."

ووضعَ كفَّه دونَ عينيها، وجذبَها خارجَ البلدة.

وما لبثا أن بَعُدا قليلًا حتى جاءَ برهانُ الزاهري بعشرينَ رجلًا وزيادة.

فلمّا رأى الجثثَ الستَّ في الأرضِ أظلمَ وجهُه.

وبالطبع لم يُفلتْ عبدُ الرقيب تلك العجوزَ المحتالة…

وتمتمَ برهانُ بوجهٍ كالصقيع: "أتقتلُ رجالي وتريدُ الإفلات؟"

"هَهْ! اتبعوه!"

وما إن قال ذلك حتى اندفعوا بالخيلِ يطوون الطريقَ نحو الجهةِ التي خرجَ منها الاثنان.

ولمّا جاوزا أطرافَ البلدةِ أرخى عبدُ الرقيب يدَه، فانفجرتْ ميّاسةُ باكيةً في صدره.

"وُو… ظننتُ أنّي… أنّي هالكةٌ… وُو…"

"أنت… كيف أتيتَ… الحمدُ للهِ أنّك جئتَ…"

"يا أعمى… إنّي لأخافُ كثيرًا…"

فأرخى يديهِ شيئًا فشيئًا، وأحاطَها وطفقَ يسكّنُ ظهرَها بكفّه.

فسكنتْ بفضلِ صوتهِ اللَّينِ ودفءِ راحته.

"لا تخافي، ألا ترينَ أنّي قد حضرتُ؟"

"لا بُدَّ أن نمضي سريعًا؛ فقد أطلقَ ذاكَ إشارةً، ولعلّ الطلبَ يدركُنا قريبًا."

فهزّتْ رأسَها وعيناها محمرّتان.

غيرَ أنّ جرحَها وفزعَها أضعفا ساقيها.

فجثا عبدُ الرقيب من غيرِ رويّةٍ: "هَلُمّي؛ أحملُكِ على ظهري."

فاحمرَّ خدُّها، وأسندتْ رأسَها إلى منكبه.

وأثقلَ ذلك الإحساسُ أنفاسَه، وكانتْ خدّانِها يلتهبان، فخبّأتْ وجهَها في عنقه حياءً.

ثم تغيّر لونُه فجأةً؛ إذ أحسَّ رجّةَ الأرض، فحملَها ووثبَ يعدو!

وفي الوقتِ نفسه طافتْ "عينُ القلب" بالآفاق، ثم ضاقَ صدرُه قليلًا — فحولَ البلدةِ فلاةٌ سهلاءُ لا ملجأَ فيها!

وسرعانَ ما لحقَ برهانُ ومن معهُ بعبدِ الرقيب.

فلمّا صارَ بينهم نحوُ مائةِ ذراعٍ وقفَ عبدُ الرقيب فجأةً.

إذ لا يُدافعُ الخيلَ في الفلاةِ وهو يحملُ جسدًا على ظهره.

فوضعَ ميّاسةَ وقال هامسًا: "من الآنَ فاستدبري وجهي، وعدّي؛ فإذا بلغتِ خمسَمائةَ عدًّا رجعتُ إليكِ."

ثم استقبلَ القومَ، وخفقَ قلبُه خفقًا لا يُمسك!

وبلغَ بردُ القتلِ أن حرّكَ ميّاسةَ فالتفتتْ يسيرًا، فرأتْه غريبَ الظهر.

قرضَ على أسنانِه وأغمضَ عينيه ألمًا — وكان بردُ القتلِ أشدَّ من قبل!

والفتى على صهوةِ جوادِه هو كبيرُ دارِ آلِ زاهرٍ قبلَ ثمانِ سنين…

ذاك الذي لم يعدّ لحياةِ الأختِ قدرًا — برهانُ الزاهري!

ولمّا يتبيّنْ وجهَ عبدِ الرقيب بعدُ؛ إذ كانتِ الخيلُ تُسرعُ حتى قاربتْ.

لكنّه لمّا لمحَ عينيهِ البيضاوين ومحياهُ القديم عرفَه من أوّلِ نظرة!

فقفزَ برهانُ عن فرسه وقال ساخرًا بعينٍ تلتهبُ فرحًا: "أأنتَ ذاكَ الأعمى؟"

"هاهاهاها! أما زلتَ حيًّا؟"

"ظننتُ الثلجَ العظيمَ قبلَ ثمانِ سنينَ قد قتلكَ بردًا!"

وتصفّحَه من فوقٍ إلى أسفلَ ثم قال مزدرِيًا: "أنتَ وأختُك سواءٌ أتزالُ تسألُ الناسَ طعامًا؟"

وهمسَ عبدُ الرقيب: "سبعةَ عشر… ثمانيةَ عشر…"

وضجرتِ الخيلُ من بأسِه، فجعلتْ تضربُ الأرضَ قلقًا، ولم يُسكّنْها الضربُ ولا الصياح.

وأطبقتْ ميّاسةُ أذنيها وقعدتْ مدبرةً: "سبع… ثمان… تسع…"

وكان برهانُ يُحدّقُ في قوامِها الخفير، فاضطرمتْ شهوتُه، ولعقَ شفتَيه وقال لعبدِ الرقيب: "ما نسبُها إليك؟"

"هي زوجتي الآتية."

وما إن فرغَ من قولِه حتى اندفعَ عبدُ الرقيب كالسهمِ على غرّةٍ!

وركزَ قدمَه في الأرض حتى غاصتْ، وجذبَ برهانُ عِنانَ الفرسِ ليحولَ بينهُ وبين نفسه!

فضربَ عبدُ الرقيب هامةَ الفرسِ بقبضةٍ واحدةٍ، فطار في الهواء!

وتحطّم القحفُ، وتلطّخَ اللحمُ دمًا.

وردّتِ القوّةُ برهانَ وراءَ الفرسِ خطواتٍ عشرًا.

فبُهِتَ الحرّاسُ حولَهُ بدهًا لا يوصف.

فمثلُ هذه القوّةِ ليسَ للبشرِ من عامّتِ الناسِ بها طاقة…

ووجدَ عبدُ الرقيب في تلك الضربةِ بُغيتَه من فورِ الغضب.

وما كانتْ تلك القبضةُ خمسَمائةَ رطلٍ بل أزيد.

ثم مالَ برأسِه نحوَ برهانَ وقال: "أنا اليومَ فقيرٌ، غيرَ أنّ معي ألف فلس."

"واليومَ أبتاعُ حياتَك بألف فلس…!"

فَجِعَ برهانُ؛ إذ لم يحسبْ أن يُقاسيَه وهو في صناعةِ الجسد، غيرَ أنّ كِبرَهُ منعَه الفرار.

وكيفَ يُساوي في عينيه من كان بالأمسِ صعلوكًا مداسًا؟!

فانتزعَ من ظهرِ أحدِهم سيفًا وصاح مغتاظًا: "اقتلوه!"

"ومن يقتلْهُ فله عندي مائةُ مِثقالٍ من الذهب!"

فلمّا سمعوا ذلك تألّقتْ عيونُهم طمعًا، فنزلوا من صهواتِهم وأحدقوا بعبدِ الرقيب.

ولكن أين يُباري هؤلاء قبضتَه ورِجلَه؟

فكان يُسقِطُ الرجلَ في صرعةٍ بقبضةٍ أو ركلةٍ، فيولولُ على الأرض؛ وبعضُهم لم يَسْلَمْ من قتلٍ إذ أفرطتِ القوّة.

فحطّمَ عنقَ واحدٍ منهم بقبضةٍ، واقتربَ من برهانَ قربًا!

وكان إذ ذاك كأنّه ملكُ الموتِ لا يصدّه صادّ.

وفي أنفاسٍ يسيرةٍ صرعَ الحرّاسَ كلَّهم؛ فمات أكثرُهم وجُرحَ بقيّتُهم!

وأمّا من بقيَ حيًّا فكانَ يئنُّ مكسورَ الأطرافِ — والقطعُ عنده أهونُ الجراح.

فعضَّ برهانُ على أسنانِه، وأبى أن يُقرَّ بالعجزِ، وطارَ بسيفهِ يضربُ ضرباتٍ متتابعة.

وكان عبدُ الرقيب صاحبَ قبضةٍ لا سيفَ؛ فعسرَ عليه مساقُ السيفِ أوّل وهلةٍ، غيرَ أنّ قبضتَه أسرعُ وأثقلُ.

فبينما يتحاشى الضرباتِ باغتهُ حين رُدَّ السيفُ إلى صاحبه، فضربَ صدرَه.

طَقْطَقَة!

فانكسرتْ له أربعُ أضلاعٍ بقبضةٍ واحدةٍ.

وهوى إلى الأرضِ يرمي دمًا.

ثم لمحَ بطرفِ عينِه ميّاسةَ غيرَ بعيدٍ، فأخرجَ رقعةَ تعويذٍ منقوشةً ولصقَها بذاتِه، فاشتعلتْ من غيرِ نار!

وارتجفَ قلبُ عبدِ الرقيب، وانطلقَ برهانُ كالعاصفِ نحوَ ميّاسة!

فانقلبَ لونُ عبدِ الرقيب، وصرفَ نفسَه من فوره وأرخى كُمَّهُ فسقطَ الخنجرُ في راحته، فرماهُ بكلِّ ما أوتي!

فِق!

فغاصَ الخنجرُ في كتفِ برهانَ، فتعثّرَ وتباطأ.

واغتنمها عبدُ الرقيب، فصارَ وراءَ ميّاسة.

فَشّ!

ونفذ السيفُ الباردُ من كتفِ عبدِ الرقيب اليمنى.

فاستبشرَ برهانُ، فلمّا أرادَ نزعَ السيفِ وجدَ كفَّهُ تقبضُ على الحدِّ قبضًا!

وجرى الدمُ على النصلِ هَوْنًا، وحدّقَ عبدُ الرقيب بعينيهِ البيضاوين المشتعلتين — إليه.

فأحسَّ برهانُ ببردٍ يطلعُ من ظهره، فحطّمَ لوحًا يَشْبِيًّا في يده!

طَخ!

وقال عبدُ الرقيب بصوتٍ جَمْديّ: " ألف فلس!"

ثم قبضَ يسراهُ قبضًا، وجمعَ فيها بأسًا مفزعًا.

دَوِيّ!

وانقذفَ برهانُ، وانخفضَ صدرُه، وتقيّأ دمًا فثورًا وفيه فتاتٌ من لحم!

وشحبَ لونُ عبدِ الرقيب، واستلَّ السيفَ مهلًا، وتقدّمَ به إليه.

وكانتْ ميّاسةُ إنّما بلغتِ العدَّ: "خمسَةٌ وثمانون."

وارتدَّ برهانُ خوفًا وهو يرى عبدَ الرقيب يدنو: "يا أعمى، لا تقتلْني! لا تقتلْني!"

"أنا على وشكِ اختبارِ أصلِ الروح… وأنا ممّن يسعى إلى التألّه!"

"لا تقتلْني…"

"إن عفوتَ أعطيتُكَ مالًا كثيرًا، وأحجارَ الروح! نعم! أُعطيكَ أحجارَ الروح!"

طَق!

فرمى عبدُ الرقيب من حجره فلسًا، وقال بصوتٍ قارسٍ مُدَمْدِم: "إنّ نفسَك الرخيصةَ لا تساوي إلّا ألف فلس."

Patuloy na basahin ang aklat na ito nang libre
I-scan ang code upang i-download ang App

Pinakabagong kabanata

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل100

    عادَ فِتْيانُ طائفةِ سيفِ الصَّيْفِ الأكبرِ فقصّوا في القاعةِ العُظمى ما كانَ في قصرِ الحُلْمِ العُلويّ من أمرٍ لا يخفى ولا يُوارى. وكان في المجلسِ شيوخُ الذُّرى كافّةً، ومعهم السَّيّدُ لُكانُ بنُ كَرَّامَ، وناظر السُّنن على الأحكامِ قُدامةُ بنُ نُعمانٍ. ووقفَ نُعيمُ بنُ تَيْمٍ دونَ الدَّرَجِ إلى جانبِ عبدِ الرقيبِ وأصحابِه. ووجِلَ قلبُ عبدِ الرقيبِ — وقد أفنى من سائرِ الرُّقَع أربعَ طوائفَ — إذ فيمن هلكَ ذوو جذرٍ مَلِكيٍّ، وخشيَ أن تثورَ الثّأراتُ. فأشارَ لُكانُ بنُ كَرَّامَ بيدِه وقال: "لا تَهَبوا؛ إنّما هلكَ نفرٌ من التلاميذ." وقال: "ما كانَ في الحَوْزِ فإلى الحَوْزِ يُرَدّ؛ وقد سُنَّ هذا منذُ ألفِ عام." وقال: "فمن قَدَرَ عليكم فليَقْهَرْكم في الداخل؛ ومن قصّرَ فليس لهُ على أحدٍ طريق." وقال: "إنْ جاءوا، جاؤوا؛ وأنتم على سكونِكم، فالزَموا السُّقيا من العلمِ والزَّادَ من الرياضة." فسُرَّ عبدُ الرقيبِ سرورًا شديدًا، إذ رأى ظهرَ الطائفةِ أصلبَ من الحديدِ المَطروق. وانصرفَ القومُ، ونُعيمُ بنُ تَيْمٍ يضحكُ ملءَ فيه، فلمّا أحسَّ بنَفَسِ عبدِ الرقيبِ أغزرَ ولم يرَهُ قد عبرَ طورَ ال

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 99

    لعلّها صنائعُ تلامذتِهم هم أنفسُهم. قال رجلٌ من طائفةِ سيفِ أُلوفِ الخالدين ساكنُ الملامحِ متبسّمًا: "يُرى أنّ أوفَرَ الغنيمةِ هذه المرّةَ نحنُ أبناءَ الطوائفِ القلائل." "غير أنّي لا أدري أيَّ البيوتِ سيفقدُ تلامذةً." قهقهتْ امرأةٌ من رَواقِ سيفِ الأُفُقِ الأُرجوانيّ وقالت: "وبكلِّ حالٍ لن يكونوا أبناءَ رَواقِ سيفِ الأُفُقِ الأُرجوانيّ." "وبعدّةِ أولئك من طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر، فالظاهرُ أنّهم توارَوا في الحَوْزِ الخفيّ فسَلِموا." ولكنّهم مكثوا طويلًا فلم يخرجْ من أيِّ طائفةٍ أحدٌ. ضحكَ حُذيفةُ الحَكيم مُسَلِّيًا وقال: "هاه… هاها، لا بأس، لقد انصرفَ المُشوِّشون، ومن ثَمَّ فالظَّافرونَ يَخْلُصونَ للكنوزِ في الداخل." "أليسَ هذا مألوفًا؟ فلا تَهلَعوا." فهزَّ القومُ رؤوسَهم باسمين؛ إذ جَرَتِ العادةُ في مثلِ هذا الأوان أن يُقَلِّبَ الفائزونَ المغانمَ في الداخل. وما إن حلّقَ قومُ طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر في الجوِّ حتى قال عبدُ الرقيبِ خافتًا يحثّ: "يا شيختَنا غَيْثَ اللُّجّيّ، هل نزيدُ السُّرعةَ؟ فلنَنْصرفْ حالًا!" وكانتْ غَيْثُ اللُّجّيّ بعدُ غارقةً في غُمومِ مصرعِ رَباب،

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل98

    هُم! وقفَ شيوخُ الطوائفِ الستِّ في الساحةِ ووجوهُهم مشوبةٌ بالتوتّر. فكلُّ دخولٍ إلى الحَوْزِ الخفيِّ يجرُّ قتلى وجَرحى من التلاميذ. فضحكَ شيخٌ أحدبُ القامةِ من بابِ السَّبعِ أوتار خافتًا وقال: "لِمَ تُبدونَ الكآبةَ هكذا؟" "وهذه المرّةُ ونحن نرقبُ تموّجَه ليس الحَوْزُ بالعنيفِ، ولعلّهُ لا خطَرَ فيه." "وأرى… أنكم قد بالغتم في التهيّب." فتبسّمَ ساخرًا رجلٌ أَوْحَدُ العينِ من أبناءِ سيفِ أُلوفِ الخالدين في رداءٍ أبيض وقال: "هَه، ومن لا يدري أنّ الخطرَ بعدَ الدُّخولِ ليس من الحَوْزِ نفسِه؟" "غيرَ أنّ الستَّ قد اصطلحتْ منذُ قديمٍ: في الحَوْزِ — النفسُ مسؤولةٌ عن نفسِها." "فلا يَضِقْ صدرُ أحدٍ عندئذٍ، فيضحكَ الناسُ منه سِرًّا." ثمّ لم يملكْ طرفُهُ أن يرمقَ غيث بطرفٍ مُوارٍ. فرمقَهُ غيث اللُّجّيّ ببرودٍ وقالَ يردُّ: "يا حُذيفةَ الحَكيم، أتُلمِّحُ إلى طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر؟" "لا أدري من أينَ لك الجرأةُ كي تُلاسنَني بهذا التلوين!" "لو حضرَ نُعيمُ بنُ تَيْمٍ اليومَ أكنتَ لتقولَ هذا؟" "ولئن لم يَقلَعْ لك عينَك الأُخرى لَأعدُّكَ صُلبَ الحظِّ." فارتجفَ وجهُ حُذيفةَ وأشارَ إليهِ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 97

    امتدَّ الوِشاحُ الناموسيُّ الملوَّنُ جُنُونًا، فأحاطَ بأنور وقيسِ القُنَنِ في لَحْظَةٍ واحدة! "اعملوا! اقتلوهم!" وفي طَرْفةِ عينٍ اندفعتْ بُروقُ السيوفِ طاعنةً إلى الملتفَّيْنِ! فجأةً! وعلى صخرةٍ على بُعدِ نحوِ مائة ذراع تجلّتْ فجأةً هيئةٌ واحدة! وانفجرَ زئيرٌ غاضبٌ صادحٌ! "أتجترئون؟!" فلمّا بلغَ الصوتُ أسماعَ تلامذةِ الجهاتِ الثلاثِ اضطربتْ قلوبُهم وارتعدوا! "عَجِّلوا الضربَ! قد أتى!" طائفةُ سيفِ الصَّيفِ الأكبر — عبدُ الرقيبِ الليثي! ومشهدُهُ آنفًا وهو يُنازِلُ سبعةً وحدَهُ لا يَغْلِبُهُم ما يزالُ حاضرًا للأذهان. وفوقَ ذلك فكلُّ من في الساحةِ يُحِسُّ أنّ نَفَسَهُ اليومَ أضخمُ ممّا كانَ قبلُ! وفي لَحْظَةٍ انغرزتْ سيوفٌ عدّةٌ بعنفٍ في الوِشاحِ الملوَّن! وتحطَّمَتِ الصخرةُ تحتَ قدمَيْ عبدِ الرقيبِ، وانفجرتْ في الجوِّ هسيساتُ الرعدِ الدقيق! وأصحابُهُ من خَلْفِه يَجْهَدونَ في قَطْعِ الوِشاحِ فلا يَنْفَعُ، فلم يجدوا إلّا صَدَّ القومِ. ومع ذلكَ نفذتْ أربعُ سيوفٍ فغرزتْ في الوِشاحِ دفعةً! فَلَفَّ أنور السَّويّ جسدَهُ وحمى قيسَ القُنَنِ بظهرِه. ونفذتْ ثلاثُ سيوفٍ مُجتازةً، وأ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 96

    كان عبدُ الرقيبِ مُصابًا بالخَدَرِ، مُتَصَلِّبَ الجسدِ مُلقًى على المذبح؛ وتورَّمتْ عروقُ جبينِه وتصبَّبَ العَرَقُ الباردُ، وأصابعُه تتحرَّفُ ملتويّةً، وألمٌ كأنّ سكِّينًا يَشُقُّ الأحشاءَ شوّه ملامحَه. وتجلّدَ عن الوجعِ فشرعَ يُجري سِفرَ الرعدِ المُؤدِّبَ في تسعِ دَوراتٍ، فإذا الخيوطُ البرقيّةُ الدِّقاقُ في جوفِه تُسحَبُ شيئًا فشيئًا إلى حقلِ الطاقة. وكانتْ لَذْعاتُها تُفني الصبرَ، فعضَّ على نواجذِه وهدرَ خافتًا: "قُوَى الرعدِ الحقيرةُ — صَيِّرْنِيها صِرْفَ جوهرٍ!" "دَوِيّ!" ومع جريانِ البرقِ في الجسدِ تحوَّلَتِ الأقواسُ الصغارُ إلى خيوطٍ من القوّةِ الروحيّةِ شديدةِ الكثافة. "دَوِيّ!" ثمّ طَقَّ طَقًّا خفيفًا، فارتخى جِسمُه، وابتسمَ هامسًا: "الطبقةُ الثانيةُ عشرة!" واتّسعَ حقلُ الطاقةِ فوقَ ما كانَ بثلاثةِ الأعشار، حتى كأنّهُ لُجَّةٌ واسعة. وبعدَ بُرهةٍ نهضَ، فرأى التُّرسَ الناموسيَّ قد صارَ جُرْحًا على جُرْحٍ لا وَهَجَ له. وههنا تذكّرَ أن ينظرَ ما في خاتمِ الحفظ؛ فإذا فيه بيضةٌ أُرْجوانيّةٌ بقدرِ رأسِ إنسانٍ، ساكنةٌ تطفو، قد غُلّفتْ بقِشورٍ كاللُّبانِ الصُّنْبُريّ لونُ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 95

    نظرَ عبدُ الرقيبِ إلى موضعِ الإدراجِ على معراجِ نقلٍ، فوضعَ التميمةَ اليشبيّةَ التي بيده. هُمّ! فأومضَ المعراجُ بضوءٍ خافتٍ ولم يتبدّلْ شيء، فلمّا رأى مواضعَ إدراجٍ أخرى عَلِمَ الأمر. وفي لَفْتةٍ أدرجَ ستَّ عشرةَ لُجَيْنةً روحيّةً في المعراجِ، فتلألأ الرسمُ ولم يتحرّك. "أإلانةُ المعراجِ تستوجبُ لُجينًا من المنزلةِ الوسطى؟" قَقْ قَقْ! وحقًّا، لمّاعَ الضياءُ فاختفى خيالُ عبدِ الرقيبِ من الحجرةِ لِوَقْتِه. طَقْ طَقْ قَقْ قَقْ! وما إن فَتَحَ عينيه حتى أيقظتْهُ لَذْعاتٌ في سائرِ جسدِه. فرأى نفسَه قائمًا على مِذْبحٍ عتيق! وحولَهُ تنتشرُ الصواعقُ إلى الآفاق؛ وخيوطُها الدقيقةُ إذا لامستْهُ أرجفتْ بدنَه. ورفعَ طرفَهُ فإذا فوقَ المذبحِ كأنّه غديرُ رعدٍ. وفي وسطِ الغديرِ شيءٌ كأنّهُ يَجْذِبُ قوى الرعودِ إليه. وإذا روحُ السيفِ تظهرُ ببطءٍ في هذهِ الساعة! ومعلومٌ أنّ ظهورَها يستهلكُ قُوًى جمّةً، فلا تُبدي ذاتَها هيّنًا. فقالَ عبدُ الرقيبِ: "ما هذا الشيء؟" قالتْ وهي تُثبّتُ طرفَها في صواعقِ قلبِ المذبحِ هامسةً: "كيفَ يظهرُ هذا في عالمِ الأرواحِ البشريّة؟" فقالَ مُقْعِدًا حاجبَيْه: "

Higit pang Kabanata
Galugarin at basahin ang magagandang nobela
Libreng basahin ang magagandang nobela sa GoodNovel app. I-download ang mga librong gusto mo at basahin kahit saan at anumang oras.
Libreng basahin ang mga aklat sa app
I-scan ang code para mabasa sa App
DMCA.com Protection Status