Share

مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى
مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى
Author: اليمامة المباركة

الفصل1

Author: اليمامة المباركة
إقليم الصَّيْف الأكبر، صعيد السَّحابة الزُّرقى، بلدة الصَّرْد الشَّمالي.

غلامٌ في السادسةِ أو السابعةِ يتقرفصُ عند سِبْعٍ حجريٍّ بإزاء الباب الخلفيّ من دار آل زاهر.

في صقيع الثلج يلبسُ قميصًا غيرَ ملائمٍ لجسدٍ ناحلٍ فيرتجفُ كالسُّنبلة.

والأعجبُ أنّ عينيه معصوبتانِ بخرقةٍ سوداء.

تُبرزُ الخرقةُ حاجبَيْنِ كسيوفٍ وأنفًا أشمَّ وشفتينِ رقيقتين.

وخدّاهُ محدّدانِ أشدَّ التحديد.

قعقعةٌ…

انفتح البابُ الخلفيُّ لدارِ آلِ زاهر ثم أعقبهُ وقعٌ مُثْقَل.

طَخ!

طُرِحت جثّةٌ يابسةٌ من البابِ إلى الخارج.

فسقط الجسدُ الضامرُ على الأرض فثلمَ الثلجَ ثَلْمًا ضحلًا.

تردّد زُهَيْرُ خادمُ الدارِ في فروٍ سميكٍ ولمعتْ في عينهِ شفقةٌ يسيرة.

ألقى أربع مائة فلس إلى الأرضِ وردَّ ما بقي في كُمّه.

طَقّ!

فلمّا سمعَ الفتى نهضَ ونفضَ الثلجَ عن ثوبه وأخرج على وجهه الأزرقِ بسمةً وادعةً وقال: "أزُهَيْرُ أنت؟ أأُلقيتَ آنفًا فضلاتِ المائدةِ من الدار؟"

ثم قرفصَ وجعلتْ كفّاهُ المحمرّتانِ تتحسّسانِ الثلجَ على عَجَلٍ.

وظلّتِ البسمةُ على وجهه حتى لمسَ جثّةً باردةً تنفذُ قَرَّها إلى العظم!

جمدتْ يدُ عبدِ الرقيبِ في الهواءِ وارتجفتْ شفتُه واضطربَ جِسمُه.

ثم ركعَ قليلًا ومدّ يديه المرتعشتينِ إلى وجهِ الجثّةِ يلمسانِه.

فلمّا مسَّ ذَقنَ الفتاةِ ارتدّت يدُه كالمصعوقة!

لقد لمسَ أثرَ جرحٍ طويلٍ خلّفه عمٌّ سكرانُ مقامرٌ ضربَ أختَه قبل عامين.

"يا أختاه…"

وانطلق من فيهِ نحيبٌ خافتٌ فيهِ كمدٌ وحُرقة.

وزالتِ البسمةُ وانهمرَ الدمعُ لا يُمسَك.

ثم نزعَ مِرطَه البالي الوحيدَ ولفَّ به الجسدَ غيرَ مُكترثٍ بحدِّ الريح!

وانكشفَ على الجسدِ النحيلِ آثارُ عَضٍّ وجراحٍ وزرقةٌ على الظهرِ لم تخبُ.

ومدَّ يدًا مشقّقةً بالصَّرْدِ فمسَّ شعرَ الفتاةِ برِفق.

وأطرقَ برأسهِ وقالَ بصوتٍ مبحوحٍ: "الموتُ راحةٌ، وأمّا الحياةُ… فعذاب."

ثم قلّبَ الثلجَ طويلًا حتى لم يجدْ إلا أربع مائة فلس.

أربع مائة فلس!

فاستعرَ في صدرهِ غضبٌ جارفٌ كأنّهُ يُشَقِّقُ حَشَاه!

أنبعدَ الموتِ لا تُحفظُ لأختِه آخرُ كرامتِها…

أموالُ الميّتِ يُنتهَبُ هكذا سهلًا؟!

هبّتْ نَسْمةٌ باردةٌ فشدَّ زُهَيْرُ كُمَّه وقال ناصحًا وهو ينظرُ إلى الفتى: "نحِسَتْ نجمةُ أختِك؛ خُذِ المالَ وانصرفْ، لا تَمُتْ قَرًّا ههنا."

فنزعَ الفتى العصابةَ عن عينيه فكشفتْ عن حدقتينِ شاحبتين.

ورفعَ رأسَه إلى الصوتِ مكظِمًا غيظه.

ثم اضطربَ صوتُه قليلًا ومدَّ يمينه وقال همسًا: "مات خادمٌ ظلمًا، وعلى أهلِ الدارِ فداءُ ألف فلس!"

"هذا المالُ… آخرُ كرامةٍ لأختي، لا يَحِلُّ لكَ أخذُه!"

فقبضَ زُهَيْرُ كُمَّيهِ فلمّا سمعَ ذِكرَ المالِ انطفأتْ شفقته.

وقال بوجهٍ جامدٍ: "يا أعمى، هذه أربع مائة فلس؛ خُذْها أو دَعْها! ابتعِدْ."

ثم استدارَ ليُغلقَ الباب.

وتجهّمَ عبدُ الرقيبِ وطلعَ بأسٌ على محيّاه!

فوثبَ إلى الدَّرَجِ وقبضَ يدَ الرجلِ وصاحَ: "آتِني الذي وَجَب!"

فلمّا رأى زُهَيْرُ تلكَ اليدَ المقرّحةَ تمسكُه عقدَ حاجبَيْه.

ولمعتْ في عينهِ شرارةُ بطشٍ فقبضَ شعرَ الغلامِ ورمى به عن الدَّرَج.

طَخ!

ارتمى الجسدُ النحيلُ على الثلجِ وفوقه صفائحُ حجرٍ صُلب.

فالوقوعُ عليه يُزرقُّ منهُ الجسدُ فكيف بمن قُذِفَ مسافةً؟

نظرَ زُهَيْرُ بوجهٍ باردٍ إلى الغلامِ المطروحِ وقالَ شرًّا: "يا أعمى، خُذِ الجثّةَ وانصرفْ عاجلًا!"

"ولولا رأفتي ما أعطيتُكَ أربع مائة فلس!"

"فِتْ!"

وإذ انثنى ليرجعَ إذا بذيلِه يُجذَبُ فجأةً.

فالتفتَ فرأى الغلامَ من ورائهِ قابضًا ذيلَه بكلتا يديه.

"آتِ المالَ!"

"ذاكَ فداءُ حياةِ أختي!"

وثبَ الغضبُ في صدرِ زُهَيْرَ وكادَ يبطشُ ثمّ حدّقَ في تلكَ العينينِ الشاحبتينِ المَحقونتينِ دَمًا.

ومع أنّهما لا تُبصرانِ أحسَّ كأنّهما تُصوّبانِ النظرَ إليه.

فسرى في قلبهِ بردٌ ثم رمقَ الجثّةَ التي أهلكها الجوعُ والنَّصَب.

فرقَّ قلبُه ودسَّ ما بقي من الأفلاسِ في كفِّ الغلامِ وقال: "خُذْه، يا للنَّحس!"

وأرخى الفتى يدَهُ يعدُّ القطعَ فتورًا.

طَخ!

أُطْبِقَ بابُ الدارِ وسمعَ من الداخلِ صوتًا فَتِيًّا.

"يا زُهَيْرُ، ما بالك؟ أعلفْ طيورَ مولانا عاجلًا!"

"مولانا بُرهان، إليكَ، إليكَ."

"أين كنتَ آنفًا؟"

"……"

"أما ماتت جاريةٌ؟ أمرٌ حقيرٌ؛ أعجِلْ بذلك الأعمى ليبتعد!"

وظلَّ عبدُ الرقيبِ شاخصًا إلى السماءِ وهو قابضٌ على الأفلاسِ جالسًا على الدَّرَجِ طويلًا.

ثم نزلَ الدَّرَجَ وحملَ الجثّةَ الجامدةَ على ظهرهِ ومضى.

قَرْقَر… قَرْقَر…

ذاكَ صريرُ قدمَيْهِ على الثلجِ بطيئًا مُتَمايلًا.

وهذه الحالُ رآها شيخٌ من خانٍ على بُعدِ أذرُعٍ كثيرة.

كان الشيخُ في رداءٍ رماديٍّ بسيطٍ وقد ابيضّتْ لحيتهُ وشعرُه.

أنفُه أشمُّ وشفتاه رقيقتانِ لا قسوةَ فيهما وبين عينيهِ صفاءٌ لا وَهْنَ عليه.

وعلى مائدتهِ أطعمةٌ يسيرةٌ وإبريقُ نبيذٍ دافئ.

فلمّا رأى الغلامَ يتحسّسُ الجدارَ ماشيًا توقّفتْ يدُهُ الحاملةُ للكأس.

ولاحتْ في عينيهِ لمعةٌ خفيّةٌ وقال مُخافتًا: "عجبًا! طلبتُ هذا الغرسَ قرونًا فإذا هو صبيٌّ أعمى…"

"دعوا الأمرَ؛ لعلّهُ قَدَر."

ثم نهضَ الشيخُ وقالَ بصوتٍ رخيمٍ: "يا غلامُ، الحساب."

وكان الشتاءُ في أَشُدّهِ والريحُ كالسكاكينِ على وجهِ الحدث.

فاستراحَ مرّاتٍ في الطريقِ حتى إذا أرخى الليلُ ستْرَه وضعَ الجثّةَ عند بابِ دارِ الشفاءِ.

وكان الشيخُ الرماديُّ تحيدُ عنهُ الرّيحُ والثّلجُ كأنّ له حِرزًا.

"لقد ماتتْ ودخلتِ الأرواحُ والأنفاسُ في دورِ العَوْدِ؛ فماذا في دارِ الشفاءِ؟"

"آخذُ دواءً لأمّي… ليس لها…"

ثم لم يلبثْ أن خرجَ وفي يدهِ أعشابٌ فحملَ الجثّةَ ثانيةً ومضى.

ثم أتى دكّانًا مُعلّقًا على بابهِ سُتورٌ بيض.

وبعد حينٍ خرجَ وفي يدهِ جرّةٌ.

وعليها رقعةٌ مثبتة.

"روّاءُ الليثيّة."

فلفَّها في ثوبِها الورديِّ ووجهُه ساكنٌ لا يتحرّك.

وفي الطريقِ التقطَ من بابِ المخبزِ قرصَيْنِ جامدَيْنِ كالحجرِ فابتسم.

فازدادَ الشيخُ الذي يتبعهُ عجبًا: كيف لم يَجْزَعْ لأختِه ثم يبتسمُ لقرصينِ منبوذَيْن؟

وإنما تشبّثَ بأن يستوفيَ ممّا انتقصهُ خادمُ الدارِ من الأفلاسِ.

فاستبدَّ بهِ الفضولُ فاتّبعَه.

فجأةً!

توقّف الشيخُ في العاصفةِ ورفع طرفَه إلى السماءِ.

وقال همسًا: "هَهْ، ما هدمتُ إلا طائفةً منذ قريب، أفيأتي حامي المملكةِ العائِفُ بنفسِه؟"

"وجنينُ الروحِ صغيرٌ… رؤيتُه حسنةٌ لِنُريحَ الطرفَيْن."

خَطْفَة!

خطا الشيخُ خطوةً فطوى مئات الأذرع في لحظةٍ ونزلَ سقيفةً برّيّة.

وكان شيخٌ مُوَشّى الحُلّةِ قد سخّنَ الخمرَ وأصلحَ الشاي كأنّهُ ينتظر.

فلمّا رآه قامَ يجلّهُ وقال: "سلامٌ على السيّدِ الجليل…"

وجنوبَ بلدةِ الصَّرْدِ الشماليّ دارٌ خَرِبةٌ لا يُسَدُّ بابُها.

وقفَ الفتى طويلًا على العتبةِ ثم تنفّسَ عميقًا ودفعَ البابَ ودخل.

قعقعةٌ…

الحجرةُ مُظلمةٌ لا سراجَ فيها والبيتُ عارٍ وقرطاسُ النوافذِ مثقّبٌ لا مالَ لرَقْعِه.

وتحرّكتْ هيئةٌ على السريرِ الطينيِّ ثم جاء صوتٌ ضعيفٌ رويدًا.

"أعُدتَ يا عبدَ الرقيب؟"

كان صوتُ المرأةِ رقيقًا ولكنهُ واهٍ شديدُ الوهن.

وهي بَانَة بنتُ صفوانَ أمُّ عبدِ الرقيب.

قامت نحيلةَ الوجهِ غائرةَ الخدّين غير أنّ نظرَها إلى ابنِها مفعمٌ حنانًا.

وتلمّستْ بضوءِ القمرِ وقالتْ خافتًا: "وأين روّاء؟"

فجمدَ الفتى وهو يفتّشُ عن الشمعةِ ثم أوقدَها فأضاءتْ جرّةٌ وحْدَها بجانبه.

وأعرضَ بوجههِ وقالَ مغصَبَ الصوت: "روّاءُ… ماتت، وقد فَدَتْها الدارُ بألف فلس."

"قد استرددتُ المالَ وأخفيتُه لدوائِك."

ثم أخرجَ من صدرِه قرصًا لانَ بحرارةِ الجسدِ فناولها.

وأخذَ الأعشابَ إلى المطبخِ وقال مبحوحًا: "أغلي لكِ الدواء."

فجذبتْ بَانَة بنت صَفوان يدَه وردّتِ القرصَ إلى كفِّه وقالتْ كاظمةً العَبْرة: "أمُّك… لا تجوع؛ كُلْهُ أنت."

وكان شعرُها اليابسُ يسترُ معظمَ وجهِها ومع ذلك سمعَ الفتى وَقْعَ الدموعِ على الحصير.

وبينما هما في حزنهما إذ…

طَخ!

رُكلَ البابُ ركلاً فاندفعَ بردُ الشمالِ إلى الدارِ فارتعدَ الفتى — لا يدري أمِن القرِّ أم من الخوف.

وكان الداخلُ عمًّا بعيدًا يُقالُ له مروانُ الليثيّ.

قصيرَ القامةِ في جُبّةٍ زرقاءَ داكنةٍ عريضَ الفَكَّيْنِ ضيّقَ العينينِ أقنَى الأنفِ وعلى مُحيّاهُ غِلظةٌ وشراسة.

ولمّا جاوزَ العتبةَ صاحَ: "تبًّا! أين المالُ؟"

Patuloy na basahin ang aklat na ito nang libre
I-scan ang code upang i-download ang App

Pinakabagong kabanata

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل100

    عادَ فِتْيانُ طائفةِ سيفِ الصَّيْفِ الأكبرِ فقصّوا في القاعةِ العُظمى ما كانَ في قصرِ الحُلْمِ العُلويّ من أمرٍ لا يخفى ولا يُوارى. وكان في المجلسِ شيوخُ الذُّرى كافّةً، ومعهم السَّيّدُ لُكانُ بنُ كَرَّامَ، وناظر السُّنن على الأحكامِ قُدامةُ بنُ نُعمانٍ. ووقفَ نُعيمُ بنُ تَيْمٍ دونَ الدَّرَجِ إلى جانبِ عبدِ الرقيبِ وأصحابِه. ووجِلَ قلبُ عبدِ الرقيبِ — وقد أفنى من سائرِ الرُّقَع أربعَ طوائفَ — إذ فيمن هلكَ ذوو جذرٍ مَلِكيٍّ، وخشيَ أن تثورَ الثّأراتُ. فأشارَ لُكانُ بنُ كَرَّامَ بيدِه وقال: "لا تَهَبوا؛ إنّما هلكَ نفرٌ من التلاميذ." وقال: "ما كانَ في الحَوْزِ فإلى الحَوْزِ يُرَدّ؛ وقد سُنَّ هذا منذُ ألفِ عام." وقال: "فمن قَدَرَ عليكم فليَقْهَرْكم في الداخل؛ ومن قصّرَ فليس لهُ على أحدٍ طريق." وقال: "إنْ جاءوا، جاؤوا؛ وأنتم على سكونِكم، فالزَموا السُّقيا من العلمِ والزَّادَ من الرياضة." فسُرَّ عبدُ الرقيبِ سرورًا شديدًا، إذ رأى ظهرَ الطائفةِ أصلبَ من الحديدِ المَطروق. وانصرفَ القومُ، ونُعيمُ بنُ تَيْمٍ يضحكُ ملءَ فيه، فلمّا أحسَّ بنَفَسِ عبدِ الرقيبِ أغزرَ ولم يرَهُ قد عبرَ طورَ ال

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 99

    لعلّها صنائعُ تلامذتِهم هم أنفسُهم. قال رجلٌ من طائفةِ سيفِ أُلوفِ الخالدين ساكنُ الملامحِ متبسّمًا: "يُرى أنّ أوفَرَ الغنيمةِ هذه المرّةَ نحنُ أبناءَ الطوائفِ القلائل." "غير أنّي لا أدري أيَّ البيوتِ سيفقدُ تلامذةً." قهقهتْ امرأةٌ من رَواقِ سيفِ الأُفُقِ الأُرجوانيّ وقالت: "وبكلِّ حالٍ لن يكونوا أبناءَ رَواقِ سيفِ الأُفُقِ الأُرجوانيّ." "وبعدّةِ أولئك من طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر، فالظاهرُ أنّهم توارَوا في الحَوْزِ الخفيّ فسَلِموا." ولكنّهم مكثوا طويلًا فلم يخرجْ من أيِّ طائفةٍ أحدٌ. ضحكَ حُذيفةُ الحَكيم مُسَلِّيًا وقال: "هاه… هاها، لا بأس، لقد انصرفَ المُشوِّشون، ومن ثَمَّ فالظَّافرونَ يَخْلُصونَ للكنوزِ في الداخل." "أليسَ هذا مألوفًا؟ فلا تَهلَعوا." فهزَّ القومُ رؤوسَهم باسمين؛ إذ جَرَتِ العادةُ في مثلِ هذا الأوان أن يُقَلِّبَ الفائزونَ المغانمَ في الداخل. وما إن حلّقَ قومُ طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر في الجوِّ حتى قال عبدُ الرقيبِ خافتًا يحثّ: "يا شيختَنا غَيْثَ اللُّجّيّ، هل نزيدُ السُّرعةَ؟ فلنَنْصرفْ حالًا!" وكانتْ غَيْثُ اللُّجّيّ بعدُ غارقةً في غُمومِ مصرعِ رَباب،

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل98

    هُم! وقفَ شيوخُ الطوائفِ الستِّ في الساحةِ ووجوهُهم مشوبةٌ بالتوتّر. فكلُّ دخولٍ إلى الحَوْزِ الخفيِّ يجرُّ قتلى وجَرحى من التلاميذ. فضحكَ شيخٌ أحدبُ القامةِ من بابِ السَّبعِ أوتار خافتًا وقال: "لِمَ تُبدونَ الكآبةَ هكذا؟" "وهذه المرّةُ ونحن نرقبُ تموّجَه ليس الحَوْزُ بالعنيفِ، ولعلّهُ لا خطَرَ فيه." "وأرى… أنكم قد بالغتم في التهيّب." فتبسّمَ ساخرًا رجلٌ أَوْحَدُ العينِ من أبناءِ سيفِ أُلوفِ الخالدين في رداءٍ أبيض وقال: "هَه، ومن لا يدري أنّ الخطرَ بعدَ الدُّخولِ ليس من الحَوْزِ نفسِه؟" "غيرَ أنّ الستَّ قد اصطلحتْ منذُ قديمٍ: في الحَوْزِ — النفسُ مسؤولةٌ عن نفسِها." "فلا يَضِقْ صدرُ أحدٍ عندئذٍ، فيضحكَ الناسُ منه سِرًّا." ثمّ لم يملكْ طرفُهُ أن يرمقَ غيث بطرفٍ مُوارٍ. فرمقَهُ غيث اللُّجّيّ ببرودٍ وقالَ يردُّ: "يا حُذيفةَ الحَكيم، أتُلمِّحُ إلى طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر؟" "لا أدري من أينَ لك الجرأةُ كي تُلاسنَني بهذا التلوين!" "لو حضرَ نُعيمُ بنُ تَيْمٍ اليومَ أكنتَ لتقولَ هذا؟" "ولئن لم يَقلَعْ لك عينَك الأُخرى لَأعدُّكَ صُلبَ الحظِّ." فارتجفَ وجهُ حُذيفةَ وأشارَ إليهِ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 97

    امتدَّ الوِشاحُ الناموسيُّ الملوَّنُ جُنُونًا، فأحاطَ بأنور وقيسِ القُنَنِ في لَحْظَةٍ واحدة! "اعملوا! اقتلوهم!" وفي طَرْفةِ عينٍ اندفعتْ بُروقُ السيوفِ طاعنةً إلى الملتفَّيْنِ! فجأةً! وعلى صخرةٍ على بُعدِ نحوِ مائة ذراع تجلّتْ فجأةً هيئةٌ واحدة! وانفجرَ زئيرٌ غاضبٌ صادحٌ! "أتجترئون؟!" فلمّا بلغَ الصوتُ أسماعَ تلامذةِ الجهاتِ الثلاثِ اضطربتْ قلوبُهم وارتعدوا! "عَجِّلوا الضربَ! قد أتى!" طائفةُ سيفِ الصَّيفِ الأكبر — عبدُ الرقيبِ الليثي! ومشهدُهُ آنفًا وهو يُنازِلُ سبعةً وحدَهُ لا يَغْلِبُهُم ما يزالُ حاضرًا للأذهان. وفوقَ ذلك فكلُّ من في الساحةِ يُحِسُّ أنّ نَفَسَهُ اليومَ أضخمُ ممّا كانَ قبلُ! وفي لَحْظَةٍ انغرزتْ سيوفٌ عدّةٌ بعنفٍ في الوِشاحِ الملوَّن! وتحطَّمَتِ الصخرةُ تحتَ قدمَيْ عبدِ الرقيبِ، وانفجرتْ في الجوِّ هسيساتُ الرعدِ الدقيق! وأصحابُهُ من خَلْفِه يَجْهَدونَ في قَطْعِ الوِشاحِ فلا يَنْفَعُ، فلم يجدوا إلّا صَدَّ القومِ. ومع ذلكَ نفذتْ أربعُ سيوفٍ فغرزتْ في الوِشاحِ دفعةً! فَلَفَّ أنور السَّويّ جسدَهُ وحمى قيسَ القُنَنِ بظهرِه. ونفذتْ ثلاثُ سيوفٍ مُجتازةً، وأ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 96

    كان عبدُ الرقيبِ مُصابًا بالخَدَرِ، مُتَصَلِّبَ الجسدِ مُلقًى على المذبح؛ وتورَّمتْ عروقُ جبينِه وتصبَّبَ العَرَقُ الباردُ، وأصابعُه تتحرَّفُ ملتويّةً، وألمٌ كأنّ سكِّينًا يَشُقُّ الأحشاءَ شوّه ملامحَه. وتجلّدَ عن الوجعِ فشرعَ يُجري سِفرَ الرعدِ المُؤدِّبَ في تسعِ دَوراتٍ، فإذا الخيوطُ البرقيّةُ الدِّقاقُ في جوفِه تُسحَبُ شيئًا فشيئًا إلى حقلِ الطاقة. وكانتْ لَذْعاتُها تُفني الصبرَ، فعضَّ على نواجذِه وهدرَ خافتًا: "قُوَى الرعدِ الحقيرةُ — صَيِّرْنِيها صِرْفَ جوهرٍ!" "دَوِيّ!" ومع جريانِ البرقِ في الجسدِ تحوَّلَتِ الأقواسُ الصغارُ إلى خيوطٍ من القوّةِ الروحيّةِ شديدةِ الكثافة. "دَوِيّ!" ثمّ طَقَّ طَقًّا خفيفًا، فارتخى جِسمُه، وابتسمَ هامسًا: "الطبقةُ الثانيةُ عشرة!" واتّسعَ حقلُ الطاقةِ فوقَ ما كانَ بثلاثةِ الأعشار، حتى كأنّهُ لُجَّةٌ واسعة. وبعدَ بُرهةٍ نهضَ، فرأى التُّرسَ الناموسيَّ قد صارَ جُرْحًا على جُرْحٍ لا وَهَجَ له. وههنا تذكّرَ أن ينظرَ ما في خاتمِ الحفظ؛ فإذا فيه بيضةٌ أُرْجوانيّةٌ بقدرِ رأسِ إنسانٍ، ساكنةٌ تطفو، قد غُلّفتْ بقِشورٍ كاللُّبانِ الصُّنْبُريّ لونُ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 95

    نظرَ عبدُ الرقيبِ إلى موضعِ الإدراجِ على معراجِ نقلٍ، فوضعَ التميمةَ اليشبيّةَ التي بيده. هُمّ! فأومضَ المعراجُ بضوءٍ خافتٍ ولم يتبدّلْ شيء، فلمّا رأى مواضعَ إدراجٍ أخرى عَلِمَ الأمر. وفي لَفْتةٍ أدرجَ ستَّ عشرةَ لُجَيْنةً روحيّةً في المعراجِ، فتلألأ الرسمُ ولم يتحرّك. "أإلانةُ المعراجِ تستوجبُ لُجينًا من المنزلةِ الوسطى؟" قَقْ قَقْ! وحقًّا، لمّاعَ الضياءُ فاختفى خيالُ عبدِ الرقيبِ من الحجرةِ لِوَقْتِه. طَقْ طَقْ قَقْ قَقْ! وما إن فَتَحَ عينيه حتى أيقظتْهُ لَذْعاتٌ في سائرِ جسدِه. فرأى نفسَه قائمًا على مِذْبحٍ عتيق! وحولَهُ تنتشرُ الصواعقُ إلى الآفاق؛ وخيوطُها الدقيقةُ إذا لامستْهُ أرجفتْ بدنَه. ورفعَ طرفَهُ فإذا فوقَ المذبحِ كأنّه غديرُ رعدٍ. وفي وسطِ الغديرِ شيءٌ كأنّهُ يَجْذِبُ قوى الرعودِ إليه. وإذا روحُ السيفِ تظهرُ ببطءٍ في هذهِ الساعة! ومعلومٌ أنّ ظهورَها يستهلكُ قُوًى جمّةً، فلا تُبدي ذاتَها هيّنًا. فقالَ عبدُ الرقيبِ: "ما هذا الشيء؟" قالتْ وهي تُثبّتُ طرفَها في صواعقِ قلبِ المذبحِ هامسةً: "كيفَ يظهرُ هذا في عالمِ الأرواحِ البشريّة؟" فقالَ مُقْعِدًا حاجبَيْه: "

Higit pang Kabanata
Galugarin at basahin ang magagandang nobela
Libreng basahin ang magagandang nobela sa GoodNovel app. I-download ang mga librong gusto mo at basahin kahit saan at anumang oras.
Libreng basahin ang mga aklat sa app
I-scan ang code para mabasa sa App
DMCA.com Protection Status