Share

الفصل2

Author: اليمامة المباركة
خفض عبدُ الرقيب الليثي رأسَه، وارتجف جسدُه قليلًا، قائمًا وفي يدِه أعشابُ الدواء لا يجرؤ على حركة.

غير أنّ الرجلَ لمحَ للوهلةِ الأولى عينيه غيرَ مَعصوبتَيْن.

فعبس وجهُه، ولطمه لطمةً طرحتْه أرضًا!

طَقّ!

"تبًّا، كم مرّةً قلتُ لكَ أن تعصبَ عينيك!"

"يا شؤمَك!"

"إذا وقعتْ عيناي على عينيكَ، خسرتُ مالي! وسأفقأهما يومًا!"

ونظر مروانُ الليثيُّ إلى الأعشابِ المتناثرةِ فازداد غيظُه، فركل عبدَ الرقيب ركلاتٍ موجعة.

وزأر: "أأنفقتَ المالَ دواءً؟!"

"أأنفقتَه؟ أأنفقتَه؟!"

ولعلّ مثلَ هذا المشهدِ قد عاناه الفتى مرّاتٍ لا تُحصى، فضمّ رأسَه بكفّيه، وحنى بدنَه اتّقاءً للضرب.

وعيناه كأنهما خامدتان، لا يريدُ إلا أن يَمُرَّ العذابُ سريعًا.

ومنذ ثلاثِ سنينَ حين هربوا من الجوعِ إلى هذا العمِّ البعيد، بدأتْ أيّامٌ كالجحيم.

وكان الفتى على الأرض يحمي ما تناثر من الأعشابِ بجسدِه.

وسمعت بَانَة بنتُ صفوان الصوتَ، فاندفعت تتعثّر، ودَفَعتْ مروانَ عن الصبيِّ وهي تهتف: "لا تضرب… لا تضربِ الولد…"

فخطف مروان لوحًا بقربه، وهَوَى به على رأسها!

طَخ!

"مريضةٌ واهية! علامَ يُنفقُ عليكِ! موتُكِ خيرٌ!"

"ولو علمتُ من قبلُ لأرسلتُكِ مع ابنتكِ خادمةً لدار آل زاهر؛ تموتان فنأخذُ عِوضًا أكثر!"

وسال الدمُ على جبهةِ بَانَة رويدًا، ومع ذلك ظلّت تفدي الصبيَّ بجسدِها، تقول متضرّعةً: "لا تضربِ الولد."

وأحسَّ عبدُ الرقيب بحرارةٍ لزجةٍ على خدّه.

دمٌ…

ففطن لما كان، وتحوّل وجهُه إلى قَتامةٍ.

وانتزَع نفسَه من حِضنِ أمّه، وبما عهِدَتْ يدُه من ترتيبِ البيت قبضَ في لحظةٍ على سكّينِ المطبخ!

فهتف أولَ صَيْحةِ غضبٍ في وجهِ هذا العمّ.

"اخرس! لولا سُكركَ وقمارُك ما آل بنا الأمرُ إلى هذا!"

"ومرضُ أمّي ما كان ليطول! وأختي ما كنتَ لتبيعَها لدارِ آلِ زاهر حتى تهلكَ كدًّا!"

"المستحقُّ للهلاك… أنتَ! أنتَ يا مروانَ الليثي!"

وزأر عبدُ الرقيب في وجهه، يسكبُ غضبًا مكبوتًا في صدرِه منذ سنين.

وكان مروانُ تفوحُ منه خمرةٌ، فاشتدّ وجهُه وقال شاتمًا.

"لو لم أُطعِمْكما لَهلكتُما جوعًا خارج الأسوار! والآن تجرؤان على رفع السكين في وجه من يعد نفسه أنا الحقير؟"

وأخذ مروانُ يلتفتُ يطلبُ ما يضربُ به، لكنّ الفتى أصغى سمعَه، ودفع قدمَيْه، فوثب عليه في اللحظة.

ولمعت سكّينُ المطبخ في ضوءِ القمرِ على العتبة، فالتقط مروانُ جَرّةً ورماها على الفتى!

وكان جسمُ الصبيِّ نحيلًا لكنه رشيقُ الحركة، فحين سمعَ ثِقْلَ المرفوعِ تَجنّبَ بضربةِ جنبٍ.

طَقّ!

تهشّمتِ الجرّة.

وتكسّرتْ عند قدمَيْه، ومعها وقعُ أفلاسٍ على الأرض، فجمُدَ الفتى في مكانه!

لأنّه علم ما يُنبئُ عنه ذاك الصوت…

عظامُ الأختِ في الجرّة…

وتلك السُّيورُ من النُّحاسِ في ضوءِ القمرِ كانت مُؤذيةَ اللمعان.

وانطلق صوتُ مروانَ مُتهلّلًا: "هاهاهاها! ألف فلس!"

"هذه المرّةُ سأقلبُ الخسارةَ ربحًا!"

"وأستردُّ الأصلَ والرِّبحَ معًا، هاهاها!"

ووقف عبدُ الرقيب في مكانه يرتجفُ كلُّه، وقد خَدِرَت أطرافُه.

ومرّت صورُ بؤسِه في خاطره خاطفةً كالمِرآة.

فما شبعَ يومًا، ولا عرف أباه؛ قيل مات في مجاعةٍ قديمة.

ومنذ أووا إلى هذا القرابةِ البعيدِ بدأ الكابوسُ الحقّ.

وكان مروانُ يدخلُ الدار يأخذُ المال؛ إن وجدَه شرب وأسرف، أو قَمَر فأطال مبيته أيّامًا.

وما امتلأ مخزنُ القوتِ مرّةً؛ ومنذ عرف الدنيا ما فارقهم البلاء.

ومرضت الأمُّ ولم يُداوِها، بل قَمَر بثمنِ دوائها!

ولا يزال يذكُرُ أمَّه تمسكُ بثوبِه متوسّلةً، وذاك الوجهُ المخبولُ يقولُ.

"يومي هذا موفّقٌ؛ أفوزُ لا مَحالَة! ثم نعيشُ عيشًا رغيدًا!"

ومن بعدها لزمتِ الأمُّ المرضَ، وبِيعَت الأختُ لدار آل زاهر خادمةً.

وأمّا هو فإلى السؤالِ في الطرقات، وكان اليومَ قد ظفرَ بقرصينِ أبيضَيْنِ كالحَجَر، فرأى فيهما عَشاءَهُ وأمَّه.

وكان يكفيهما وجبةً شبعًا.

لكنّه اليوم… عاد الرجلُ ثانيةً!

وبلغَه خبرُ موتِ الأخت، فطمعَ في ألف فلس!

وكان عبدُ الرقيب أحيانًا يتمنّى في نفسه لو كان من أهلِ الطيرانِ في الهواء والسيرِ في الضياء.

لعلّ بؤسَ الدنيا يرفقُ به قليلًا.

ودار وهو يسمعُ شتائمَ مروانَ لا تزالُ تصطكُّ في أذنِه.

"ماتتْ فماذا تصنعُ بالعظام!"

ورفع عبدُ الرقيب سكّينَه رويدًا!

ولاحتْ في عيني بَانَة لمحةُ شفقة، ولم تمنعه.

فقد يئستْ من مروانَ، وعرفتْ أن أجلَها قريب.

وخافت إن ماتتْ أن يبيعَ ابنَها بثمنٍ.

"لعلّ هذا خيرٌ…"

شَقَّتِ السكّينُ العُنقَ شقًّا، وأحسَّ الفتى بحرارةٍ على وجهِه.

وخرّ مروانُ في دمِه مبهوتَ العينين لا يُصدّق.

وتهالكَ الفتى جالسًا.

وأحسّت بَانَة بدوارٍ، وغشيَ بصرَها الغمامُ.

وبردَ جسدُها قليلًا فقَسَرَتْ وجهَها على ابتسامةٍ شاحبة.

ونادت خفيقًا: "يا عبدَ الرقيب… تعال."

فأسرع إليها يرتجفُ يعانقُها.

وضمّته إلى صدرِها ولم تنظرْ إلى المطروحِ قريبًا.

وبسطتْ كفًّا على عينيه تُسكّنه وقالت: "لا تخف يا عبدَ الرقيب…"

"الموتُ موتٌ، ولعلّه راحة."

"ارفعْ رأسَك؛ دعْني أنظرْ إليك."

وكان الفتى رقيقَ الحسّ، ففطن لما تُضمِر.

فرفع رأسَه وقد انفجرتْ عيناها بالدمع، لا يكادُ ينطق.

"يا أمّاه… أتذهبين وتتركينني؟"

"فما أصنع…"

وكان بصرُ بَانَة يَخْبُو، فرفعتْ طرفَها إلى الثلجِ وراء النافذةِ وقالت.

"قصّرتُ، فتعبتَ…"

"لكن كنْ رجلًا تامًّا."

"وتزوّجْ، وأنجِبْ."

"وأنا… أظلُّ أراكَ من سماءٍ لا تبيد."

"عِشْ… عِشْ حسنَ العيش."

"وسِرْ فانظرِ الأنهارَ والألوفَ من البقاع."

طَقّ…

وأحسَّ عبدُ الرقيب يدَها تسقطُ على ظهرِه لا قوّةَ فيها.

فصاح من حرقةٍ: "يا أمّاه!"

وناداها مرّاتٍ فلم تُجِب.

وقعدَ في حضنِها ذاهلًا يقول همسًا: "لا أمَّ لي…"

"ولا أهل."

وحمَرَّتْ أجفانُه، وجرتِ الدموعُ لا يملكُها.

ولم يتكلّم؛ بل جعلَ يمسحُ وجهَ أمّه رويدًا.

كأنّه ينقشُ صورتَها في قلبِه.

ثم عاد إلى ذلك الدكّانِ المُعلَّقِ عليه السِّترُ الأبيض.

وكان صاحبُه السمينُ قد أوثقَ البابَ، فلمّا رآه غضب وقال: "لِمَ عدتَ؟ ألم تجئْ في الظلام؟"

"إنّا نعملُ بالضمير؛ عشرةُ أفلاسٍ، واللهِ ما أخذتُ فوقَ حقّي!"

فقال الفتى وهو حافي القدمين في الثلج، مبحوحُ الصوت: "ماتت أمّي أيضًا، أتُعينني… أحملُها؟"

"لا… لا أقوى على حملِها وحدي…"

فخانَت الرجلَ الكلماتُ وغاضَ غضبُهُ، وغلبه الأسى.

ففكّ له البابَ وأدخله، وألبسَه فَرْوًا مُمَزّقًا لا حاجةَ لهم به.

وقال مختنقًا: "ادفأْ قليلًا… ألبَسُ ثيابي وأخرجُ معك."

"يا بنيّ، بؤسُك كثير؛ إن رضيتَ فاعملْ عندي مُعينًا؛ لا أَعِدُكَ مالًا عظيمًا، ولكن أكفُّ عنك الجوع."

وكان الصبيُّ قد كفّ عن البكاءِ، فهدمته رحمةُ الرجل، فجلس يبكي باكيًا مُفجَعًا.

وشعرَ بحرارةِ النارِ قُدّامَه، فخرَّ راكعًا.

ونكّس رأسَه أمام الموقدِ وسجدَ سجداتٍ.

"يا أمّاه، لن أنسى فضلَكِ أبدًا؛ وسأحيا حياةَ الكرام!"

وفي السماء كان سهيلُ الغامضُ في رداءٍ رماديٍّ يشهدُ هذا.

فأجرى أنامِلَه كما لو كان يستخرجُ الطالع، وتنهد وقال: "هذا قَسْمُ القدر؛ ولو حضرتُ ما انقلب."

وحين رجع الفتى في وجهِ الريح إلى البيت، كان سهيلٌ قائمًا عند الباب.

فلمّا أحسَّ عبدُ الرقيب شخصًا قال مبحوحًا: "مَن تطلب؟"

فأشرق في يدِ الشيخ ضوءٌ، وأخرج جُبّةً سميكةً، وألقى بها على كتفي الصبيّ.

وجثا عنده، وأخذ بيدِه المتجمّدة.

وكانت حكايةُ تلك الليلة تُحزِنُ الشيخَ وإن شهد ألوانَ البلاء.

فقال رفيقًا: "يا بنيّ، أتذهبُ معي؟ من اليوم أنا جدُّك، ونرتحلُ من هنا."

وكانت عيناه قد جَمُدتا، لكنّه وجد في يده دفئًا ما عرفه.

وجرت دمعةٌ وقال مرتجفًا: "أأشبعُ…؟"

فوجِع الشيخُ لقوله، وضمّه وقال: "نعم!"

"بل أُشبِعُك كلَّ يومٍ، وأدفّئُك!"

فهزَّ الصبيُّ رأسَه رِضًا، ثم لم يتركْ وراءه إلا قَبْرَيْنِ في الفلاةِ قد نُقِشَ عليهما.

ودُفِنَت مع أمِّه عِظامُ الأختِ، ومعهما ألف فلس.

وبقي فلسٌ واحدٌ أودعه عبدُ الرقيب في صدرِه تذكارًا.

Patuloy na basahin ang aklat na ito nang libre
I-scan ang code upang i-download ang App

Pinakabagong kabanata

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل100

    عادَ فِتْيانُ طائفةِ سيفِ الصَّيْفِ الأكبرِ فقصّوا في القاعةِ العُظمى ما كانَ في قصرِ الحُلْمِ العُلويّ من أمرٍ لا يخفى ولا يُوارى. وكان في المجلسِ شيوخُ الذُّرى كافّةً، ومعهم السَّيّدُ لُكانُ بنُ كَرَّامَ، وناظر السُّنن على الأحكامِ قُدامةُ بنُ نُعمانٍ. ووقفَ نُعيمُ بنُ تَيْمٍ دونَ الدَّرَجِ إلى جانبِ عبدِ الرقيبِ وأصحابِه. ووجِلَ قلبُ عبدِ الرقيبِ — وقد أفنى من سائرِ الرُّقَع أربعَ طوائفَ — إذ فيمن هلكَ ذوو جذرٍ مَلِكيٍّ، وخشيَ أن تثورَ الثّأراتُ. فأشارَ لُكانُ بنُ كَرَّامَ بيدِه وقال: "لا تَهَبوا؛ إنّما هلكَ نفرٌ من التلاميذ." وقال: "ما كانَ في الحَوْزِ فإلى الحَوْزِ يُرَدّ؛ وقد سُنَّ هذا منذُ ألفِ عام." وقال: "فمن قَدَرَ عليكم فليَقْهَرْكم في الداخل؛ ومن قصّرَ فليس لهُ على أحدٍ طريق." وقال: "إنْ جاءوا، جاؤوا؛ وأنتم على سكونِكم، فالزَموا السُّقيا من العلمِ والزَّادَ من الرياضة." فسُرَّ عبدُ الرقيبِ سرورًا شديدًا، إذ رأى ظهرَ الطائفةِ أصلبَ من الحديدِ المَطروق. وانصرفَ القومُ، ونُعيمُ بنُ تَيْمٍ يضحكُ ملءَ فيه، فلمّا أحسَّ بنَفَسِ عبدِ الرقيبِ أغزرَ ولم يرَهُ قد عبرَ طورَ ال

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 99

    لعلّها صنائعُ تلامذتِهم هم أنفسُهم. قال رجلٌ من طائفةِ سيفِ أُلوفِ الخالدين ساكنُ الملامحِ متبسّمًا: "يُرى أنّ أوفَرَ الغنيمةِ هذه المرّةَ نحنُ أبناءَ الطوائفِ القلائل." "غير أنّي لا أدري أيَّ البيوتِ سيفقدُ تلامذةً." قهقهتْ امرأةٌ من رَواقِ سيفِ الأُفُقِ الأُرجوانيّ وقالت: "وبكلِّ حالٍ لن يكونوا أبناءَ رَواقِ سيفِ الأُفُقِ الأُرجوانيّ." "وبعدّةِ أولئك من طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر، فالظاهرُ أنّهم توارَوا في الحَوْزِ الخفيّ فسَلِموا." ولكنّهم مكثوا طويلًا فلم يخرجْ من أيِّ طائفةٍ أحدٌ. ضحكَ حُذيفةُ الحَكيم مُسَلِّيًا وقال: "هاه… هاها، لا بأس، لقد انصرفَ المُشوِّشون، ومن ثَمَّ فالظَّافرونَ يَخْلُصونَ للكنوزِ في الداخل." "أليسَ هذا مألوفًا؟ فلا تَهلَعوا." فهزَّ القومُ رؤوسَهم باسمين؛ إذ جَرَتِ العادةُ في مثلِ هذا الأوان أن يُقَلِّبَ الفائزونَ المغانمَ في الداخل. وما إن حلّقَ قومُ طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر في الجوِّ حتى قال عبدُ الرقيبِ خافتًا يحثّ: "يا شيختَنا غَيْثَ اللُّجّيّ، هل نزيدُ السُّرعةَ؟ فلنَنْصرفْ حالًا!" وكانتْ غَيْثُ اللُّجّيّ بعدُ غارقةً في غُمومِ مصرعِ رَباب،

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل98

    هُم! وقفَ شيوخُ الطوائفِ الستِّ في الساحةِ ووجوهُهم مشوبةٌ بالتوتّر. فكلُّ دخولٍ إلى الحَوْزِ الخفيِّ يجرُّ قتلى وجَرحى من التلاميذ. فضحكَ شيخٌ أحدبُ القامةِ من بابِ السَّبعِ أوتار خافتًا وقال: "لِمَ تُبدونَ الكآبةَ هكذا؟" "وهذه المرّةُ ونحن نرقبُ تموّجَه ليس الحَوْزُ بالعنيفِ، ولعلّهُ لا خطَرَ فيه." "وأرى… أنكم قد بالغتم في التهيّب." فتبسّمَ ساخرًا رجلٌ أَوْحَدُ العينِ من أبناءِ سيفِ أُلوفِ الخالدين في رداءٍ أبيض وقال: "هَه، ومن لا يدري أنّ الخطرَ بعدَ الدُّخولِ ليس من الحَوْزِ نفسِه؟" "غيرَ أنّ الستَّ قد اصطلحتْ منذُ قديمٍ: في الحَوْزِ — النفسُ مسؤولةٌ عن نفسِها." "فلا يَضِقْ صدرُ أحدٍ عندئذٍ، فيضحكَ الناسُ منه سِرًّا." ثمّ لم يملكْ طرفُهُ أن يرمقَ غيث بطرفٍ مُوارٍ. فرمقَهُ غيث اللُّجّيّ ببرودٍ وقالَ يردُّ: "يا حُذيفةَ الحَكيم، أتُلمِّحُ إلى طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر؟" "لا أدري من أينَ لك الجرأةُ كي تُلاسنَني بهذا التلوين!" "لو حضرَ نُعيمُ بنُ تَيْمٍ اليومَ أكنتَ لتقولَ هذا؟" "ولئن لم يَقلَعْ لك عينَك الأُخرى لَأعدُّكَ صُلبَ الحظِّ." فارتجفَ وجهُ حُذيفةَ وأشارَ إليهِ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 97

    امتدَّ الوِشاحُ الناموسيُّ الملوَّنُ جُنُونًا، فأحاطَ بأنور وقيسِ القُنَنِ في لَحْظَةٍ واحدة! "اعملوا! اقتلوهم!" وفي طَرْفةِ عينٍ اندفعتْ بُروقُ السيوفِ طاعنةً إلى الملتفَّيْنِ! فجأةً! وعلى صخرةٍ على بُعدِ نحوِ مائة ذراع تجلّتْ فجأةً هيئةٌ واحدة! وانفجرَ زئيرٌ غاضبٌ صادحٌ! "أتجترئون؟!" فلمّا بلغَ الصوتُ أسماعَ تلامذةِ الجهاتِ الثلاثِ اضطربتْ قلوبُهم وارتعدوا! "عَجِّلوا الضربَ! قد أتى!" طائفةُ سيفِ الصَّيفِ الأكبر — عبدُ الرقيبِ الليثي! ومشهدُهُ آنفًا وهو يُنازِلُ سبعةً وحدَهُ لا يَغْلِبُهُم ما يزالُ حاضرًا للأذهان. وفوقَ ذلك فكلُّ من في الساحةِ يُحِسُّ أنّ نَفَسَهُ اليومَ أضخمُ ممّا كانَ قبلُ! وفي لَحْظَةٍ انغرزتْ سيوفٌ عدّةٌ بعنفٍ في الوِشاحِ الملوَّن! وتحطَّمَتِ الصخرةُ تحتَ قدمَيْ عبدِ الرقيبِ، وانفجرتْ في الجوِّ هسيساتُ الرعدِ الدقيق! وأصحابُهُ من خَلْفِه يَجْهَدونَ في قَطْعِ الوِشاحِ فلا يَنْفَعُ، فلم يجدوا إلّا صَدَّ القومِ. ومع ذلكَ نفذتْ أربعُ سيوفٍ فغرزتْ في الوِشاحِ دفعةً! فَلَفَّ أنور السَّويّ جسدَهُ وحمى قيسَ القُنَنِ بظهرِه. ونفذتْ ثلاثُ سيوفٍ مُجتازةً، وأ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 96

    كان عبدُ الرقيبِ مُصابًا بالخَدَرِ، مُتَصَلِّبَ الجسدِ مُلقًى على المذبح؛ وتورَّمتْ عروقُ جبينِه وتصبَّبَ العَرَقُ الباردُ، وأصابعُه تتحرَّفُ ملتويّةً، وألمٌ كأنّ سكِّينًا يَشُقُّ الأحشاءَ شوّه ملامحَه. وتجلّدَ عن الوجعِ فشرعَ يُجري سِفرَ الرعدِ المُؤدِّبَ في تسعِ دَوراتٍ، فإذا الخيوطُ البرقيّةُ الدِّقاقُ في جوفِه تُسحَبُ شيئًا فشيئًا إلى حقلِ الطاقة. وكانتْ لَذْعاتُها تُفني الصبرَ، فعضَّ على نواجذِه وهدرَ خافتًا: "قُوَى الرعدِ الحقيرةُ — صَيِّرْنِيها صِرْفَ جوهرٍ!" "دَوِيّ!" ومع جريانِ البرقِ في الجسدِ تحوَّلَتِ الأقواسُ الصغارُ إلى خيوطٍ من القوّةِ الروحيّةِ شديدةِ الكثافة. "دَوِيّ!" ثمّ طَقَّ طَقًّا خفيفًا، فارتخى جِسمُه، وابتسمَ هامسًا: "الطبقةُ الثانيةُ عشرة!" واتّسعَ حقلُ الطاقةِ فوقَ ما كانَ بثلاثةِ الأعشار، حتى كأنّهُ لُجَّةٌ واسعة. وبعدَ بُرهةٍ نهضَ، فرأى التُّرسَ الناموسيَّ قد صارَ جُرْحًا على جُرْحٍ لا وَهَجَ له. وههنا تذكّرَ أن ينظرَ ما في خاتمِ الحفظ؛ فإذا فيه بيضةٌ أُرْجوانيّةٌ بقدرِ رأسِ إنسانٍ، ساكنةٌ تطفو، قد غُلّفتْ بقِشورٍ كاللُّبانِ الصُّنْبُريّ لونُ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 95

    نظرَ عبدُ الرقيبِ إلى موضعِ الإدراجِ على معراجِ نقلٍ، فوضعَ التميمةَ اليشبيّةَ التي بيده. هُمّ! فأومضَ المعراجُ بضوءٍ خافتٍ ولم يتبدّلْ شيء، فلمّا رأى مواضعَ إدراجٍ أخرى عَلِمَ الأمر. وفي لَفْتةٍ أدرجَ ستَّ عشرةَ لُجَيْنةً روحيّةً في المعراجِ، فتلألأ الرسمُ ولم يتحرّك. "أإلانةُ المعراجِ تستوجبُ لُجينًا من المنزلةِ الوسطى؟" قَقْ قَقْ! وحقًّا، لمّاعَ الضياءُ فاختفى خيالُ عبدِ الرقيبِ من الحجرةِ لِوَقْتِه. طَقْ طَقْ قَقْ قَقْ! وما إن فَتَحَ عينيه حتى أيقظتْهُ لَذْعاتٌ في سائرِ جسدِه. فرأى نفسَه قائمًا على مِذْبحٍ عتيق! وحولَهُ تنتشرُ الصواعقُ إلى الآفاق؛ وخيوطُها الدقيقةُ إذا لامستْهُ أرجفتْ بدنَه. ورفعَ طرفَهُ فإذا فوقَ المذبحِ كأنّه غديرُ رعدٍ. وفي وسطِ الغديرِ شيءٌ كأنّهُ يَجْذِبُ قوى الرعودِ إليه. وإذا روحُ السيفِ تظهرُ ببطءٍ في هذهِ الساعة! ومعلومٌ أنّ ظهورَها يستهلكُ قُوًى جمّةً، فلا تُبدي ذاتَها هيّنًا. فقالَ عبدُ الرقيبِ: "ما هذا الشيء؟" قالتْ وهي تُثبّتُ طرفَها في صواعقِ قلبِ المذبحِ هامسةً: "كيفَ يظهرُ هذا في عالمِ الأرواحِ البشريّة؟" فقالَ مُقْعِدًا حاجبَيْه: "

Higit pang Kabanata
Galugarin at basahin ang magagandang nobela
Libreng basahin ang magagandang nobela sa GoodNovel app. I-download ang mga librong gusto mo at basahin kahit saan at anumang oras.
Libreng basahin ang mga aklat sa app
I-scan ang code para mabasa sa App
DMCA.com Protection Status