Share

الفصل3

Author: اليمامة المباركة
تقومُ على ذُرى الجبالِ قريةٌ تُسمّى "قريةَ السَّعْدِ المَديد".

في دارٍ أنيقةِ البِناء، جلسَ في وسطِ الفِناءِ فَتىً وَضيءُ الطّلعةِ مُتربِّعًا.

كان يلبسُ رداءً أبيضَ نقيًّا، وعلى صدرِه سِلْكٌ أحمرُ فيهِ "فلسٌ" بسيط.

وشيخٌ ضامرُ الجسمِ غيرُ بعيدٍ منه يَفْتِلُ دُخانَه طَقًّا طَقًّا، وتلتمعُ في عينيه بارقةُ فِطنةٍ إذ ينظرُ إلى الفتى.

"فتحُ عينِ القلب شديدُ العُسر؛ لعلّه يَتِمُّ هذه المرّة!"

وأخذَ عبدُ الرقيب الليثي يُردِّدُ في قلبِه الأذكارَ حتى دخلَ حالًا دقيقةً غامرة.

"قلبٌ لا عَلاقةَ له يتبيّنُ الهباء؛ وعقلٌ لا تَعَلُّقَ له يُبصرُ السِّرَّ."

"جميعُ السُّننِ مردُّها إلى العين؛ ومن لا يُقيمُ خاطرًا فهو الصادقُ الأمين."

"اجلسْ سكونًا، واعقدْ لُبَّك، واعُدْ خفقانَ قلبِك؛ حتى يلوحَ نورُ القلبِ فيجلو السَّماءَ والأرض."

"انسَ الصورَ تبلغِ الحقيقة؛ فإذا انفتحتْ 'عينُ القلب' وَعَيْتَ سِرَّ المقادير."

وكانت هذه القوارعُ التي علّمَه إيّاها جَدُّه تدورُ في رأسِه لا تبرح.

فسكنَ كلُّه سكونَ الماءِ الرّاكد، وانحلّتْ عن روحِه عُرى الأشياءِ رويدًا، وطفا وِعْيُه في محيطِ ما حولَه.

قليلًا قليلًا أحسَّ عبدُ الرقيب أنّه "يرى" ضِبابًا مُتراكبًا.

وفي ظُلمةٍ ميّتةٍ أبصرَ ضبابًا أبيضَ كثيفًا حتى كادَ قلبُه يضطرب!

وكان ذلك أوّلَ ما رأى "لونًا" منذ وُلِد!

ثم ملكَ نَفْسَه سريعًا، ومع تكرارِ الذِّكرِ في صدرِه أحسَّ أنّ هذه أقربُ مرّةٍ يكونُ فيها إلى فتحِ عينِ القلب!

وفي سِرِّه خطا خطوةً إثرَ خطوةٍ إلى الضباب، كأنّ جدرانًا خفيّةً تُصَدُّه!

وقَوِيَ لُبُّ عبدِ الرقيب، وثَبَّتَ خُطاه يمشي قُدُمًا قُدُمًا.

وما هيَ إلا لحظاتٌ حتى غَلَت الدماءُ في جسدِه، وارتجفَ حَصَى الأرضِ ورمادُها رجفًا خفيًّا حواليه.

وكان الضبابُ يسترُ مَحْيَا الشيخ، ومع ذلك تُرى على فَمِه ابتسامةٌ مائلة.

"هيكلُ الرُّوحِ اللَّطيف… ولا تحتاج فتحُ "عين القلب" إلى أكثرَ من سبعة أيّام…"

"هذه الموهبةُ آيةٌ في الدنيا."

وما تمّتْ كلمتُه حتى بَرَزت العروقُ في عُنقِ عبدِ الرقيب وهو جالسٌ، فانشقّ ضبابُ وِعْيِه في لحظة!

دَوِيّ!

وصَدى انكسارٍ يدقُّ في رأسِ عبدِ الرقيب.

فَجْأةً!

وارتسمَتْ على وجهِه دَهشةٌ، ثم هَدَأَ نَفَسُه واستقام.

لقد… صارَ يُبصر…

وإنْ كانتْ "عينُ القلب" لا تُري الألوانَ، فهيَ تكشِفُ ما حَوْلَه كلَّه، لا تُخالِفُ عينَ الإنسان.

فهَزَّ سهيلُ الغامضُ رأسَه قليلًا وقال في سِرِّه.

"ولمّا لم يَتَشَكَّلْ بعدُ منبرُ بحرِ الإدراك، فهذه 'العين' تُغْني."

وأطالَ عبدُ الرقيب النَّظرَ إلى الفِناءِ الأنيقِ حولَه؛ فذلك أوّلُ ما رآه.

"يا جَدّاه؟"

فابتسمَ سهيلٌ وقامَ واضعًا يدَيْه وراءَ ظهرِه وقال هاشًّا باشًّا.

"أصرتَّ تُبصر؟"

فاهتزَّ الفتى فرحًا وغَبُرَتْ أجفانُه بالدَّمعِ، وأومأ برأسِه جهدَه.

فلا ألوانَ، ولكنّ ذلك وحدَه كفاهُ فرحًا.

وربّتَ الشيخُ على كتفِه وقال ضاحكًا.

"هاها، لا تَهَبْ؛ فإذا رزقتَ 'الإدراكَ الروحيَّ' رأيتَ ألوانَ الدنيا زُهُوًّا."

"ولكنْ إنّما فتحتَ عينَ القلب أوّلَ الفتحِ، فاقْتَصِدْ؛ فإنّ الإكثارَ يُتْلِفُ النَّفَسَ والقوّة."

"هَلُمَّ، هَلُمَّ، تعالَ؛ فقد أعددتُ لك شيئًا."

فأومأ عبدُ الرقيب وأودع كلامَ الشيخِ قلبَه، ثم قامَ ووقفَ طويلًا مُتعجِّبًا.

ونظرَ إلى يدَيْه ورِجْلَيْه، ثم تناولَ "الفلسَ" المعلَّقَ على صدرِه يتأمّلُه.

وهمسَ وهو يقلبُه في كفِّه: "إذًا… هذا هو 'الفلس'؟"

وسارَ خلفَ الشيخِ إلى الفِناءِ الخلفيّ، فلما رأى في القِدْرِ الخشبيِّ ماءَ الدواءِ ذي الرائحةِ النَّفّاذةِ قالَ مُتَبرِّمًا.

"أبعدُ اليومِ أيضًا نغتسل؟"

ثم مدَّ يدَه لِيَخلعَ ثوبَه — فقد كان هذا شأنًا معهودًا.

غيرَ أنّ الشيخَ تبسّمَ تبسّمًا مُلغِّزًا ومشى قُدُمًا وقال: "لا مغتسلَ اليوم؛ تَقَدَّم."

وسكتَ عبدُ الرقيب ومضى وراءَه، فإذا أمامَه عمودٌ حجريٌّ يبلُغُ قامةَ الرجلِ أو يقاربُها.

وكان العمودُ مُرَبَّعًا يقاربُ قامةَ عبدِ الرقيب، وفيه حِبالٌ من قُنَّبٍ مثبتة.

وانقبضَ فَمُه قليلًا وهو يُمعِنُ إلى الحِبالِ وقال لا يملكُ نفسَه.

"يا جدّاه… أتراني أحملُ هذا؟"

فلم يُجِبِ الشيخُ، وإنّما تبسّمَ إليه.

فهزَّ عبدُ الرقيب كتفَيْه، ودنا من العمودِ، وحَمَل الحِبالَ على ظهرِه.

ودَفَعَ صُلْبَه فجأةً، فارتفعَ العمودُ عن الأرض!

ثم احمرَّ وجهُه وقال مُسرِّعًا.

"يا جَدّاه! هذا يزيد على خمس مائة رطل قليلًا!"

"وأخافُ أن أعْجِز…"

فضحكَ سهيلٌ وقال: "وما خمس مائة رطل! قد بلغتَ ذِروةَ تهذيبِ الجسد؛ فخمس مائة رطل هَيِّن."

"من اليومِ تأكلُ وتنامُ وتَصْعَدُ وتَنْزِلُ وهو على ظهرِك!"

فلم يَشْكُ الفتى، ولكن سألَ: "وحينَ أُؤَدّي ضَرْبَاتِ الفَنِّ؟"

فقال سهيلٌ ملتفتًا وهو يبتسم: "وأنتَ تحملُه كذلك؛ بل وتنامُ عليه."

فلم يجدْ الفتى بدًّا من الامتثالِ، وما كان يدري لِمَ ذاك.

وخرجَ الشيخُ عندَ الأصيلِ إلى فمِ القريةِ ليُلاعِبَ الشِّطْرَنْج.

ولمّا وَلّى رمى إلى عبدِ الرقيب نَظْرةً وقال مُناغيًا نفسَه.

"يا لُكع، هذا كلُّه لمَصلحتِك…"

وفي صبيحةِ الغدِ كان سهيلٌ يَعُدُّ أمرًا ويُهيِّئه.

وكان عبدُ الرقيب يحملُ العمودَ صاعدًا الجبلَ يَلْهَثُ.

وكان الصّباحُ، والدُّخانُ يتلوّى من بيوتِ الناسِ طولا.

وخرجتْ امرأةٌ في جُبّةٍ مزهّرةٍ ففتحتْ بابَ دارِها، وأخذتْ تُنادي أبناءَ الدورِ بأسمائهم.

فإنّ ما بينَ اليقظةِ والطعامِ ساعةُ لعبِ الفِتيةِ.

"يا جُعَيْل! هَلُمَّ إلى الطعام!"

"يا زَهْراءُ... عُدْتِ!"

"يا سِنَانُ، يا شَقِيُّ، ألا ترجعُ عاجلًا!"

وكان بدرُ الزاهريّ مُستخفيًا يرقبُ قدومَ ذلك الفتى.

وكانتِ البغضاءُ تلمعُ في نظرِه إليه.

وأمّا ميّاسةُ الودودُ فكانتْ تُقلُّ الكلامَ مع الناس، غيرَ أنّها تُسامِره.

وعلى لسانِ بدرٍ أنّ ميّاسةَ قد اختارَها زوجةً له لنفسه!

"كيفَ يُساجِلُه أعمى؟!"

ولذلك كان بدرٌ في هذه السنينِ كثيرًا ما يبتغي لعبدِ الرقيب شرًّا.

لكنّه كانَ في كلِّ مرّةٍ يُضرَبُ ضربًا مُبَرِّحًا.

وقد فتحَ عبدُ الرقيب عينَ القلب؛ وإنْ لم ينظرْ إلى خصمِه، فأنفاسُ بدرٍ في أُذُنِه كَخُوارِ الثَّوْر.

فوثبَ بدرٌ حينَ آنسَ الفرصةَ، ورفَع قبضةً ليضربَ عبدَ الرقيب.

فمَالَ عبدُ الرقيب قليلًا فِرارًا، ثم رَدَّ عليه لكمةً في بَطْنِه.

فجَعَلَ الألمُ بدرًا يَجْثُو ويقبضُ بَطْنَه مُتَوَجِّعًا.

وأشارَ إلى عبدِ الرقيب وقالَ مُرتَجِفَ الصوت: "يا عبدَ… الرقيب! يا لَقْطَةَ السُّوء! انتظرْني سنتَيْن!"

فقعدَ عبدُ الرقيب عنده وقال ساخرًا: "ولو مرَّتْ سنون، فلن تغلبَني."

ورأى صبيٌّ قريبٌ أنّ عبدَ الرقيب نَظَرَ إليهم فقامَ مُتَغَضِّنَ الوجه وقال: "أرْجِعُ… أمّي تدعوني إلى الطعام."

وبعدَ أن انْصَرَفَ الصبيةُ، لم يعبأ عبدُ الرقيب ببدرٍ الطَّريح.

فإنّ همَّهُ قد جاوَزَ "قريةَ السَّعدِ المَديد"، وأمّا بدرٌ…

فما حدّثَ نفسَه يومًا بسلاحٍ قاتل، وإلّا لقَتَلَه من ذي قبل.

وشَمَّ عبدُ الرقيب الرائحةَ، وتتبّعَ الأثرَ، ثم طفقَ يتعلّقُ بسياجِ دارٍ ويصيح.

"يا عَمّةَ لُبابَة... أيُّ يومٍ هذا؟ أطبختِ الدَّجاجةَ الصّغيرة؟"

قَعْقَعَةٌ...

وخرجتْ امرأةٌ في أواسطِ العمرِ مُمتلئةٌ قليلًا، وعلى وجهِها بَشَاشةٌ تُنادِي الفتى.

"أأنتَ عبدَ الرقيب؟ أطَعِمْتَ؟ آتيكَ بشيء."

فقال في نفسه وهو يرى بَشاشَتَها.

"هكذا إذًا تظهرُ العمّةُ لُبابَة…"

ثم تَمَسْلَمَ بيدِه على بطنِه وقال: "واللهِ ما أكلتُ."

"وأنا ذو أنفٍ يهتدي بالرائحة؛ أكرهُ قَتَّ الزرعِ الذي يطبخُه جَدّي؛ فأتبعُ الطِّيبَ."

فأسرعتِ المرأةُ تُلوّحُ بيدِها وقالت: "لا تَهْذُ يا شُقيّ؛ عندي نصفُ طَبَقٍ باقٍ."

"وأزيدُكَ رزًّا؛ فخُذْه إلى جدّكَ وكُلاه."

فضحكَ الفتى وانفرجَ وجهُه وقال: "شكرًا يا عمّةَ لُبابَة."

"آهِ… وما أظلمَ الدُّنيا لو لم تفتحي مطعمًا بهذا الصُّنع!"

وتهلّلتْ عينُ المرأةِ، وزادَتْ تجاعيدُ زاوِيَتَيْها.

"يا لِسُكْرِ كلامِك! انتظرْ قليلًا."

وما لبثَتْ أن خرجتْ فتاةٌ غادِرَةُ القوامِ تحملُ طَبَقَ دجاجٍ يفوحُ.

وكانتْ في ثوبٍ أزرقَ فاتحٍ، تمسكُ بطَبَقٍ مَلآن.

وتخافُ على المَرَقِ أن يَنْصُبَ، فعينيها على الطبقِ لا ترتفعان.

وهي تمشي وتتمتمُ ميّاسةُ الودود.

"أعبدَ الرقيب، أأنتَ من نسلِ الكلاب؟ كلّما طَبَخْنا جئتَ على السَّاعة!"

فأمسكَ عبدُ الرقيب بسياجِ الدار، ونظرَ إلى حُسْنِها ساكنًا.

"إذًا… ما أحسنَ ملامحَ ميّاسة."

وعند ذلكَ تبسّمَ قليلًا وقال خافتًا.

"يا ميّاسةُ، تُرى مَنْ يَرْزَقُ زوجةً حَصَانًا رَزَانًا مِثْلَك؟"

واحمرّتْ وجنتاها، وما زالتْ تجتهدُ حتى رفعتِ الطبقَ إلى السياج.

فرمقَتْه بطرفِ عينٍ ثم وَلَّتْ، لكنّها ذكرتْ أنّه أعمى لا يرى.

فجَمَعَتْ شِفاهَها ورفعتْ رأسَها وصاحت: "يا أعمى!"

فضحكَ عبدُ الرقيب، ولم ينصرفْ، بل وقفَ يُومِئُ بالطبقِ مُتَأدِّبًا.

ثم قالَ مُتَحَرِّجًا: "أقد رجعَ العَمُّ مُنْجى؟"

وكان الرجلُ قائمًا أمامَه، فلم يَتَكَلّم، بل ركلَه في عَجُزِه.

وقال ضاحكًا زاجرًا: "دَعِ العبثَ بميّاسة؛ قد قَرُبَ سنُّ الالتحاقِ بالطائفةِ، فأينَ جِدُّك؟"

"انْفُذْ!"

فضحكَ عبدُ الرقيب وقال مُسْرِعًا: "حَسَنًا — وغدًا آتي العَمَّ مُنْجى بشراب."

ودفعَ بابَ البيتِ وقال خَفْتًا: "يا جَدّاه؟ قد رجعتُ."

وسارَ في مَتاهاتِ الأزِقّةِ حتى بلغَ دارًا بعيدةَ المَوْقِع.

ثم دفعَ بابَها وقال خَفْتًا: "يا جَدّاه؟ قد رجعتُ."

وعند البابِ كان شيخٌ يدخّنُ غِلاظَ التَّبغِ، فأضاءتْ عيناه فجأةً.

ولَمَّلَمَ شفتَيْه وقال: "لا طَعَامَ كصُنْعِ زوجةِ مُنْجى."

ووضعَ عبدُ الرقيب الطبقَ، فكادَ يَتَعَثَّرُ فيقع.

فَكَلَحَ سهيلٌ وقال مغضبًا: "ألِهذا فتحتَ عينَ القلب؟ زِدْ اليومَ مائةَ دَوْرَةٍ على الأعمدة!"

فاسودَّ وجهُ الفتى، ولم يَجْتَرِئْ على الجواب.

"غيرَ أنّكَ قد أَحْسَنْتَ ضبطَ القُوّة اليوم."

"لو فَرَطْتَ لذهبتُ غدًا إلى دارِ آلِ زاهر أحضرُ المأدبة."

ودلَكَ الفتى رأسَه، ولم يتكلّم طويلًا.

"هَعْ..."

"قد فرغتُ من الطعام."

وشَعَرَ عبدُ الرقيب بأنّ أمرًا قد ساء.

وجعلتِ العيدانُ تَخْشُبُ في الطبقِ، لا يُسْمَعُ إلا وَقْعُها عليه.

"أتذهبُ إلى الشيخِ لُبيدٍ ثانيةً للشَّطْرَنْج؟"

"ما شَأنُكَ! عليكَ بضَرْبِكَ!"

"أدخلُ الجبلَ في طلبِ شيءٍ، وأعودُ بعدَ يومَيْن."

"وغدًا لا تَنْسَ أن تنزلَ فتأتيني بشراب."

فاغبرَّ وجهُ الفتى، وجعلَ يَحْشو الرزَّ في فَمِه حتى لم يُبقِ شيئًا.

ثم خرجَ إلى الفِناءِ الخلفيّ، فخلعَ ثيابَه، وجلسَ في القِدر الخشبيّ.

وكان ماءُ الدواءِ الأخضرُ الداكنُ يَلْسَعُ جِلدَه لا يفتُر.

وما هيَ إلا أنفاسٌ حتى احمرَّ جِلدُه، وأفاضَ جبينُه عَرَقًا دقيقًا.

وارتجفَ جسمُه قليلًا وعضَّ على أضراسِه.

كأنّهُ يحتملُ ألمًا غريبًا.

ومن خلالِ الدواءِ الأخضرِ تُرى على جسدِه خُطوطٌ سرّيّةٌ مُتَوالية.

ولم يفتحْ عبدُ الرقيب عينَ القلبِ على الرؤيةِ إلا هذا العام.

وفي "عينِه" لا يَرَى إلا السوادَ والبَياض، لكنهُ فَرَحٌ عظيمٌ عندَه.

فلذلكَ كان يَسْتَنْفِدُ روحَه كلَّ يومٍ في فتحِ عينِ القلب.

لأنّ معرفةَ ضَوْحِ النهارِ وظُلْمَةِ الليلِ عندَه غاليةٌ.

وقعدَ في القِدر مُتَرَبِّعًا يصبرُ على وَغْزِ مغتسلِ الدواء.

وكان يَعُدُّ في قلبِه ما بعدَ فِعْلِ الأعمدة؛ ومع صَفيرِ القبضاتِ أتمَّ آخرَ دورةٍ.

وفتحَ عينَ القلب، فرأى أنّ الوقتَ قد صارَ نصفَ الليل، فَكَسَرَ حاجبَه.

"لِمَ لَمْ يرجعْ جَدّي اليوم؟"

ثم لم يُطِلِ الفِكْرَ، فاضطجعَ ونام.

وفي صبيحةِ الغدِ لم يَرَ جدَّه، فنزلَ إلى البلدةِ ليشتري الشراب.

فقد كان الشيخُ إذا دخلَ الجبلَ غابَ أيامًا؛ وقد أَلِفَ الفتى ذلك.

وهبطَ عبدُ الرقيب يَدْنُو مُزَمْجِرًا بِلَحْنٍ خفيّ.

وفي الوقتِ نفسِه كان رجلٌ ذو صِلَةٍ عميقةٍ به في أسفلِ الجبلِ ببلدة النّماءِ.

Patuloy na basahin ang aklat na ito nang libre
I-scan ang code upang i-download ang App

Pinakabagong kabanata

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل100

    عادَ فِتْيانُ طائفةِ سيفِ الصَّيْفِ الأكبرِ فقصّوا في القاعةِ العُظمى ما كانَ في قصرِ الحُلْمِ العُلويّ من أمرٍ لا يخفى ولا يُوارى. وكان في المجلسِ شيوخُ الذُّرى كافّةً، ومعهم السَّيّدُ لُكانُ بنُ كَرَّامَ، وناظر السُّنن على الأحكامِ قُدامةُ بنُ نُعمانٍ. ووقفَ نُعيمُ بنُ تَيْمٍ دونَ الدَّرَجِ إلى جانبِ عبدِ الرقيبِ وأصحابِه. ووجِلَ قلبُ عبدِ الرقيبِ — وقد أفنى من سائرِ الرُّقَع أربعَ طوائفَ — إذ فيمن هلكَ ذوو جذرٍ مَلِكيٍّ، وخشيَ أن تثورَ الثّأراتُ. فأشارَ لُكانُ بنُ كَرَّامَ بيدِه وقال: "لا تَهَبوا؛ إنّما هلكَ نفرٌ من التلاميذ." وقال: "ما كانَ في الحَوْزِ فإلى الحَوْزِ يُرَدّ؛ وقد سُنَّ هذا منذُ ألفِ عام." وقال: "فمن قَدَرَ عليكم فليَقْهَرْكم في الداخل؛ ومن قصّرَ فليس لهُ على أحدٍ طريق." وقال: "إنْ جاءوا، جاؤوا؛ وأنتم على سكونِكم، فالزَموا السُّقيا من العلمِ والزَّادَ من الرياضة." فسُرَّ عبدُ الرقيبِ سرورًا شديدًا، إذ رأى ظهرَ الطائفةِ أصلبَ من الحديدِ المَطروق. وانصرفَ القومُ، ونُعيمُ بنُ تَيْمٍ يضحكُ ملءَ فيه، فلمّا أحسَّ بنَفَسِ عبدِ الرقيبِ أغزرَ ولم يرَهُ قد عبرَ طورَ ال

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 99

    لعلّها صنائعُ تلامذتِهم هم أنفسُهم. قال رجلٌ من طائفةِ سيفِ أُلوفِ الخالدين ساكنُ الملامحِ متبسّمًا: "يُرى أنّ أوفَرَ الغنيمةِ هذه المرّةَ نحنُ أبناءَ الطوائفِ القلائل." "غير أنّي لا أدري أيَّ البيوتِ سيفقدُ تلامذةً." قهقهتْ امرأةٌ من رَواقِ سيفِ الأُفُقِ الأُرجوانيّ وقالت: "وبكلِّ حالٍ لن يكونوا أبناءَ رَواقِ سيفِ الأُفُقِ الأُرجوانيّ." "وبعدّةِ أولئك من طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر، فالظاهرُ أنّهم توارَوا في الحَوْزِ الخفيّ فسَلِموا." ولكنّهم مكثوا طويلًا فلم يخرجْ من أيِّ طائفةٍ أحدٌ. ضحكَ حُذيفةُ الحَكيم مُسَلِّيًا وقال: "هاه… هاها، لا بأس، لقد انصرفَ المُشوِّشون، ومن ثَمَّ فالظَّافرونَ يَخْلُصونَ للكنوزِ في الداخل." "أليسَ هذا مألوفًا؟ فلا تَهلَعوا." فهزَّ القومُ رؤوسَهم باسمين؛ إذ جَرَتِ العادةُ في مثلِ هذا الأوان أن يُقَلِّبَ الفائزونَ المغانمَ في الداخل. وما إن حلّقَ قومُ طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر في الجوِّ حتى قال عبدُ الرقيبِ خافتًا يحثّ: "يا شيختَنا غَيْثَ اللُّجّيّ، هل نزيدُ السُّرعةَ؟ فلنَنْصرفْ حالًا!" وكانتْ غَيْثُ اللُّجّيّ بعدُ غارقةً في غُمومِ مصرعِ رَباب،

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل98

    هُم! وقفَ شيوخُ الطوائفِ الستِّ في الساحةِ ووجوهُهم مشوبةٌ بالتوتّر. فكلُّ دخولٍ إلى الحَوْزِ الخفيِّ يجرُّ قتلى وجَرحى من التلاميذ. فضحكَ شيخٌ أحدبُ القامةِ من بابِ السَّبعِ أوتار خافتًا وقال: "لِمَ تُبدونَ الكآبةَ هكذا؟" "وهذه المرّةُ ونحن نرقبُ تموّجَه ليس الحَوْزُ بالعنيفِ، ولعلّهُ لا خطَرَ فيه." "وأرى… أنكم قد بالغتم في التهيّب." فتبسّمَ ساخرًا رجلٌ أَوْحَدُ العينِ من أبناءِ سيفِ أُلوفِ الخالدين في رداءٍ أبيض وقال: "هَه، ومن لا يدري أنّ الخطرَ بعدَ الدُّخولِ ليس من الحَوْزِ نفسِه؟" "غيرَ أنّ الستَّ قد اصطلحتْ منذُ قديمٍ: في الحَوْزِ — النفسُ مسؤولةٌ عن نفسِها." "فلا يَضِقْ صدرُ أحدٍ عندئذٍ، فيضحكَ الناسُ منه سِرًّا." ثمّ لم يملكْ طرفُهُ أن يرمقَ غيث بطرفٍ مُوارٍ. فرمقَهُ غيث اللُّجّيّ ببرودٍ وقالَ يردُّ: "يا حُذيفةَ الحَكيم، أتُلمِّحُ إلى طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر؟" "لا أدري من أينَ لك الجرأةُ كي تُلاسنَني بهذا التلوين!" "لو حضرَ نُعيمُ بنُ تَيْمٍ اليومَ أكنتَ لتقولَ هذا؟" "ولئن لم يَقلَعْ لك عينَك الأُخرى لَأعدُّكَ صُلبَ الحظِّ." فارتجفَ وجهُ حُذيفةَ وأشارَ إليهِ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 97

    امتدَّ الوِشاحُ الناموسيُّ الملوَّنُ جُنُونًا، فأحاطَ بأنور وقيسِ القُنَنِ في لَحْظَةٍ واحدة! "اعملوا! اقتلوهم!" وفي طَرْفةِ عينٍ اندفعتْ بُروقُ السيوفِ طاعنةً إلى الملتفَّيْنِ! فجأةً! وعلى صخرةٍ على بُعدِ نحوِ مائة ذراع تجلّتْ فجأةً هيئةٌ واحدة! وانفجرَ زئيرٌ غاضبٌ صادحٌ! "أتجترئون؟!" فلمّا بلغَ الصوتُ أسماعَ تلامذةِ الجهاتِ الثلاثِ اضطربتْ قلوبُهم وارتعدوا! "عَجِّلوا الضربَ! قد أتى!" طائفةُ سيفِ الصَّيفِ الأكبر — عبدُ الرقيبِ الليثي! ومشهدُهُ آنفًا وهو يُنازِلُ سبعةً وحدَهُ لا يَغْلِبُهُم ما يزالُ حاضرًا للأذهان. وفوقَ ذلك فكلُّ من في الساحةِ يُحِسُّ أنّ نَفَسَهُ اليومَ أضخمُ ممّا كانَ قبلُ! وفي لَحْظَةٍ انغرزتْ سيوفٌ عدّةٌ بعنفٍ في الوِشاحِ الملوَّن! وتحطَّمَتِ الصخرةُ تحتَ قدمَيْ عبدِ الرقيبِ، وانفجرتْ في الجوِّ هسيساتُ الرعدِ الدقيق! وأصحابُهُ من خَلْفِه يَجْهَدونَ في قَطْعِ الوِشاحِ فلا يَنْفَعُ، فلم يجدوا إلّا صَدَّ القومِ. ومع ذلكَ نفذتْ أربعُ سيوفٍ فغرزتْ في الوِشاحِ دفعةً! فَلَفَّ أنور السَّويّ جسدَهُ وحمى قيسَ القُنَنِ بظهرِه. ونفذتْ ثلاثُ سيوفٍ مُجتازةً، وأ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 96

    كان عبدُ الرقيبِ مُصابًا بالخَدَرِ، مُتَصَلِّبَ الجسدِ مُلقًى على المذبح؛ وتورَّمتْ عروقُ جبينِه وتصبَّبَ العَرَقُ الباردُ، وأصابعُه تتحرَّفُ ملتويّةً، وألمٌ كأنّ سكِّينًا يَشُقُّ الأحشاءَ شوّه ملامحَه. وتجلّدَ عن الوجعِ فشرعَ يُجري سِفرَ الرعدِ المُؤدِّبَ في تسعِ دَوراتٍ، فإذا الخيوطُ البرقيّةُ الدِّقاقُ في جوفِه تُسحَبُ شيئًا فشيئًا إلى حقلِ الطاقة. وكانتْ لَذْعاتُها تُفني الصبرَ، فعضَّ على نواجذِه وهدرَ خافتًا: "قُوَى الرعدِ الحقيرةُ — صَيِّرْنِيها صِرْفَ جوهرٍ!" "دَوِيّ!" ومع جريانِ البرقِ في الجسدِ تحوَّلَتِ الأقواسُ الصغارُ إلى خيوطٍ من القوّةِ الروحيّةِ شديدةِ الكثافة. "دَوِيّ!" ثمّ طَقَّ طَقًّا خفيفًا، فارتخى جِسمُه، وابتسمَ هامسًا: "الطبقةُ الثانيةُ عشرة!" واتّسعَ حقلُ الطاقةِ فوقَ ما كانَ بثلاثةِ الأعشار، حتى كأنّهُ لُجَّةٌ واسعة. وبعدَ بُرهةٍ نهضَ، فرأى التُّرسَ الناموسيَّ قد صارَ جُرْحًا على جُرْحٍ لا وَهَجَ له. وههنا تذكّرَ أن ينظرَ ما في خاتمِ الحفظ؛ فإذا فيه بيضةٌ أُرْجوانيّةٌ بقدرِ رأسِ إنسانٍ، ساكنةٌ تطفو، قد غُلّفتْ بقِشورٍ كاللُّبانِ الصُّنْبُريّ لونُ

  • مغيب الأرواح، والكفن المسلول، والسيّاف الأعمى   الفصل 95

    نظرَ عبدُ الرقيبِ إلى موضعِ الإدراجِ على معراجِ نقلٍ، فوضعَ التميمةَ اليشبيّةَ التي بيده. هُمّ! فأومضَ المعراجُ بضوءٍ خافتٍ ولم يتبدّلْ شيء، فلمّا رأى مواضعَ إدراجٍ أخرى عَلِمَ الأمر. وفي لَفْتةٍ أدرجَ ستَّ عشرةَ لُجَيْنةً روحيّةً في المعراجِ، فتلألأ الرسمُ ولم يتحرّك. "أإلانةُ المعراجِ تستوجبُ لُجينًا من المنزلةِ الوسطى؟" قَقْ قَقْ! وحقًّا، لمّاعَ الضياءُ فاختفى خيالُ عبدِ الرقيبِ من الحجرةِ لِوَقْتِه. طَقْ طَقْ قَقْ قَقْ! وما إن فَتَحَ عينيه حتى أيقظتْهُ لَذْعاتٌ في سائرِ جسدِه. فرأى نفسَه قائمًا على مِذْبحٍ عتيق! وحولَهُ تنتشرُ الصواعقُ إلى الآفاق؛ وخيوطُها الدقيقةُ إذا لامستْهُ أرجفتْ بدنَه. ورفعَ طرفَهُ فإذا فوقَ المذبحِ كأنّه غديرُ رعدٍ. وفي وسطِ الغديرِ شيءٌ كأنّهُ يَجْذِبُ قوى الرعودِ إليه. وإذا روحُ السيفِ تظهرُ ببطءٍ في هذهِ الساعة! ومعلومٌ أنّ ظهورَها يستهلكُ قُوًى جمّةً، فلا تُبدي ذاتَها هيّنًا. فقالَ عبدُ الرقيبِ: "ما هذا الشيء؟" قالتْ وهي تُثبّتُ طرفَها في صواعقِ قلبِ المذبحِ هامسةً: "كيفَ يظهرُ هذا في عالمِ الأرواحِ البشريّة؟" فقالَ مُقْعِدًا حاجبَيْه: "

Higit pang Kabanata
Galugarin at basahin ang magagandang nobela
Libreng basahin ang magagandang nobela sa GoodNovel app. I-download ang mga librong gusto mo at basahin kahit saan at anumang oras.
Libreng basahin ang mga aklat sa app
I-scan ang code para mabasa sa App
DMCA.com Protection Status