في ليلةٍ واحدة، فقدت صفاء والديها، وكان الحزن قد اعتصر قلبها حتى كاد يُفنيه، غير أنّ حالتها الصحية لم تسمح لها حتى بحضور جنازتهما.غمرت الكآبة مدينة الشمال كلها، وكأنّ سحابة رمادية ثقيلة خيّمت فوقها دون انقشاع.أما الجد رائف، فقد تَلَقّى نبأ وفاة ابنه وزوجة ابنه كضربةٍ قاصمة، فسقط مغشيًّا عليه في الحال، ونُقل إلى المستشفى، مما اضطرهم إلى إتمام مراسم الدفن على عجل.في يومٍ رماديٍ قاتم، لمحت سارة امرأةً ترتدي فستانًا أسودًا وتحمل مظلة سوداء، واقفة بصمت أمام قبر العم يوسف، دون أن تتحرك قيد أنملة.كان ذاك الوجه الجميل يحمل ملامح شرسة ومشوّهة، كأنما انقلب عليه الزمان، لم تكن تتخيل أن العم يوسف سيختار في النهاية الموت مع السيدة نور.سنواتٌ طويلة من التدبير والخداع ذهبت سُدى، كانت كمن يملأ الماء في غربال، ومخططها الذي حيَكته بإحكام انهار بالكامل.لم تكن تنتظر أن يركع لها العم يوسف يومًا، لكنه أيضًا لم يمنحها حتى فرصة الانتصار، بل آثر أن يموت ليُظهِر لها بما لا يدع مجالًا للشك من تكن له مشاعره.وفي نهاية المطاف، لم يكن ما حصل سوى تجسيدٍ مؤلم لحكاية حبٍ فاشلةٍ، وبحثٍ عقيم عن من لا يريدك، كانت ه
في النهاية، تولّى العم يوسف إجراءات خروج السيدة نور من المستشفى، بل وأعدّ بنفسه وجبة في المنزل، ثم جلست نور على كرسيّها المتحرّك، ضعيفة إلى حدٍ لا يوصف.كانت تتصل مرارًا وتكرارًا بصفاء، فقلبها لا يزال معلّقًا بها، ولم يهدأ لها بال.لكن لكي لا يحزنها، لم يخبرها العم يوسف بالحقيقة.ففي هذه الحياة، كانت قد أدّت ما عليها كأم، ولم يشأ أن يجعل رحيلها محفوفًا بالندم.قال لها: "لا تشغلي بالكِ بها، أنتِ تعرفين طباعها، دائمًا ما كانت عنيدة، ربما بعد أيام تعود إلى البيت من تلقاء نفسها."أجابت نور: "ربما."ظنّت نور أن صفاء ما زالت على حالها، ترفضها ولا تطيقها، لذا لم تُلحّ عليها أكثر.وخلال وجبة الغداء، أوصت أحمد مرارًا وتكرارًا أن يُحسن إلى صفاء، وألا يجرحها يومًا، فهي امرأة طيّبة القلب.وعدها أحمد بجمود وصمت، مُخفيًا ما في أعماقه من برودة.ورغم غياب صفاء عن تلك المائدة، إلا أن نور كانت في غاية السعادة، حتى إنها شربت كأسين إضافيين، فاحمرّ وجهها واكتست وجنتاها بحمرة زهرية.طلبت من سارة أن تجلس معها لمشاهدة غروب الشمس، وكانت كثيرة الحديث تلك الليلة.قالت بابتسامة دافئة: "سارة، لو كنت أعلم أن حياتي
كانت سارة لا تزال واقفةً عند الباب، لم تدخل بعد، وقد شاهدت كلّ ما حدث للتوّ، لمعت في عينيها نظرةٌ ساخرة، ترى، من أيّ عائلةٍ تزوّجت أمّها؟باستثناء العم يوسف، لم يكن هناك أحدٌ حقًا يكنّ لها ذرةً من الخير.لقد كانت تخدم الجدّ بإخلاص طوال تلك السنين، ومع ذلك لم يعتبرها يومًا من أهله.في نهاية الأمر، أكثر من تأذّى هو العم يوسف؛ إن كان عليه أن يُضحّي بحياة صفاء مقابل إنقاذ نور، فعندما تستيقظ نور، حتمًا لن تسامحه.لا سيما وأنه ربّى صفاء كابنته منذ نعومة أظفارها، كان يُعاملها كأنها قطعة من روحه.مثل هذا القرار، كيف له أن يُقدِم عليه؟أيّ خيارٍ سيتخذه سيكون خاسرًا؛ سيُسقطه في هاوية لا قرار لها.حتى هرعت ممرضة صغيرة وهي تهتف: "أهل المريضة، لقد أفاقت، وتطلب رؤيتكم."استدار العم يوسف فجأة، وركض خلف الممرضة، بينما سارعت سارة باللحاق به.كان الطبيب المسؤول واقفًا عند باب الغرفة، قال: "بحسب رغبة المريضة، هي لا تودّ البقاء في العناية المركزة، بل ترغب في قضاء ما تبقّى لها من الوقت معكم، لكن القرار النهائي يعود إليكم، هل توافقون على ذلك؟"في وحدة العناية المركزة، ليس فقط أن الزيارة ممنوعة، بل كل محاولة
تفجّرت كلمات الحقيقة من فم ياسمين كالسهم، لتصطدم بواقعٍ قاسٍ ارتطم برأس العم يوسف كصخرة، فتجمّد الدم في عروقه، وسرت البرودة في أطرافه الأربعة.لم يكن لديه الوقت الكافي لاستيعاب ما حدث، إذ كانت نوبة من الغضب تتفجّر في صدره، تضخمت كالكرة المنتفخة بالهواء، حتى شعر وكأنّه على وشك الانفجار.قال بصوتٍ ممتزج بالغضب والذهول، "أكان لا بد أن تفعلي كل هذا؟" كانت عيونه تفيض بالدم، وصوته باردًا كجليدٍ قارس."بالطبع لا يكفي، لقد أعددتُ لك مفاجأة ثانية أيضًا، استمتع بها كما تشاء."ثم اقتربت منه بخطى كالأشباح، وهمست بنبرة مشبعة بالكراهية، "أتدري كم عامًا انتظرت هذا اليوم؟ في كل ليلة كنت تقضيها غارقًا في حبك مع نور، كنت أشعر وكأن آلاف الديدان تنهش قلبي من الداخل! هذا العذاب، أود أن تذوّقه على مهل."وما إن أنهت كلماتها، حتى رفعت ساقها فجأة وركلته بقوة في خاصرته، فانفلتت من قبضته بسهولة.حين انتصب العم يوسف متألمًا وهو يمسك ببطنه، كانت قد ابتعدت بالفعل عدة خطوات.قالت بصوتٍ عالٍ: "أنا لم أعد تلك المرأة الساذجة التي كانت تنتظر عودتك يومًا، أنا الآن مختلفة تمامًا."كانت ترتدي فستانًا أبيض، بدا عليها وقارٌ
"أنت لا تحبني، لا ألومك على ذلك، لطالما اعتقدتُ أن الوقت كفيل بأن يجعلك تتجاوز كل شيء، وأنك في يومٍ ما، ستقع في حبي"."حتى وإن كنتَ دائمًا باردًا تجاهي، فقد حرصتُ على تربية الطفل جيدًا، كنا عائلة، وكنتُ أؤمن أنك لا بد أن تحب هذا الطفل"."لكن حين رأيتُ الحياة تُنتزع من جسد صغيري شيئًا فشيئًا، كرهتك! كرهت قسوتك وخيانتك، لماذا كنت بهذه الوحشية؟! فضّلت أن تهب كل حبك لتلك الحقيرة، ولم تمنحني أنا وطفلي حتى ذرة منه، لذا أقسمتُ أن أجعلك تندم طوال عمرك!"حين وصلت إلى هذه الكلمات، كانت عينا ياسمين تتأججان بالغل، وقالت: "حين علمتُ أن نور حامل، شعرتُ بالحقد، فأنا فقدت طفلي، فلماذا هي تملك عائلةً تحبها وطفلًا في أحشائها؟ لهذا خططتُ لكل شيء، وعندما وضعت مولودها، سرقتُه منها".ارتعشت شفتا العم يوسف، وقال: "ذلك الطفل... كان صفاء!""صحيح، ألم تكن مغرمًا بتلك الحقيرة حد الجنون؟"على وجه ياسمين ارتسمت نظرة جنونية، وقالت: "لكنني بالغتُ في تقديرك، فالطفلة كانت أصغر من ابننا، ومع ذلك لم تشكّ أبدًا في شيء، وهذا طبيعي، فأنت لم تهتم يومًا بطفلي"."لذا، كنتُ دائمًا أعامل صفاء بلطفٍ مبالغ، وجعلتها منذ صغرها تعرف
راحت ياسمين تتأمل ملامح وجهه بانبهار، وابتسامة متكلفة ترتسم على شفتيها، ثم قالت بخفة: "هل خطر لكَ أنني ربما تناولتُ دواءً يسبب الموت الظاهري فقط؟"سألها العم يوسف: "ولماذا؟"ظهر في عينيه شيء من الخذلان وهو يقول: "لماذا تدّعين الموت؟ أين كنتِ طوال هذه السنوات؟ ولما لكِ علاقة بمنظمة الحشرات السامة؟"نظرت إليه، إلى هذا الرجل الذي طالما بدا مفعمًا بالشهامة، فقهقهت بخفّة وقالت: "ما زلتَ ساذجًا كما كنت، مضت كل هذه السنين ولم تتغير قيد أنملة".قال السيد يوسف: "ما الذي تقصدينه؟"نهضت ياسمين ببطء، ومدّت أصابعها تمسح بها على وجنته برقة ساخرة، وهمست قائلة: "يوسف... يا يوسف، هل تعلم كم انتظرتُ هذا اليوم؟"كلما تكلمت، ازداد العم يوسف حيرة، لم يكن يتخيل قط أن تلك المرأة الرقيقة والودودة التي عرفها في الماضي قد تتحول إلى هذا الكائن الغريب.قال محتارًا: "لا أفهم ما تعنينه... أُجيبيني، هل كنتِ أنتِ من دبر حادث صفاء؟ لماذا آذيتها؟! إنها ابنتكِ الحقيقية!""ابنتي الحقيقية؟"قهقهت ياسمين بسخرية، وقالت: "يوسف، نعم، بيني وبينك كان هناك طفل ذات يوم... لكنه مات منذ زمن بعيد".اتسعت عينا العم يوسف بذهول، فقد بد