انعقد حاجبا سارة بقلق، فكل ما يشغل بالها الآن هو أمر آدم.صحيح أنّ جلال كان إلى جانبه، لكنهما فرا على عجل وسط المطر الغزير، فهل أصابهما مكروه؟كانت تعلم يقينًا أنّ القلق لن يُجدي، فما حدث قد حدث، وحتى بعد عودتها إلى مدينة الشمال فلن تتمكن في وقت قصير من التواصل مع جلال.قالت لنفسها: "حسنًا، سأبقى هنا لبعض الوقت."ما دام الطفل معها، فجلال لا بدّ أن يجد وسيلة للتواصل معها، لكن الأهم الآن هو أن تستعيد عافيتها.أما مارية، فكانت طفلة مطيعة جدًا، صبورة على الشدائد، لا ترفض أي طعام، ولا تُبدي أيّ دلع أو تمرد يليق بعمرها الصغير.وبرغم أنّ مرافقتها يوميًا ملأت قلب سارة بالسعادة، إلا أن شعورًا بالوجع كان يتخلل ذلك الفرح.فوراء كل هذا الهدوء والالتزام تاريخ طويل من الحرمان، ومن دون العواصف كيف يمكن لطفلة صغيرة أن تصبح بهذا النضج؟الأطفال الذين عبروا المصاعب هم فقط من يصيرون أكثر طاعة وهدوءًا.لم يخطر ببال سارة أن تُلقي باللوم على جلال، فهو أنقذ طفليها، ورجل واحد يجرّ خلفه طفلين لينشئهما ليس أمرًا هيّنًا، وهي تشعر بامتنان كبير نحوه.كل ما تشعر به هو الأسى على طفليها، اللذين انفصلا عن والديهما في ع
ما إن خطرت ببال سارة فكرة أنّ وجودها قد يجلب النحس لمن حولها، حتى شدّت ذراعيها أكثر حول طفلتها.فالطفلة هي الكنز الذي عثرت عليه بعد معاناة طويلة، وهذه المرة، أيًّا كان الثمن، لن تسمح لأحد بأن يمسّها.يكفي أنّها تأكدت من بقائهما على قيد الحياة، وهذا وحده كان كفيلًا بأن يبعث الطمأنينة في قلبها.ما عليها فعله الآن هو الاعتناء بجسدها المنهك، والبحث سرًا عن الحقيقة.فما دام القاتل لم يُكشف بعد، فهي مضطرة للاختباء والتواري، إذ إن ظهورها يعني أن طفليها سيكونان في خطر أيضًا.لكن، لماذا؟! الخطأ لم يكن خطأها، فلماذا تُضطر إلى أن تعيش في الظل؟فهي بريئة تمامًا، فلماذا يُكتب على طفليها أن يعيشا مطأطئي الرأس، كفئران مطاردة، يختبئان من أعين الناس؟تبًا لذلك، فالمجرم الحقيقي هو ذاك الشخص الذي دمّر زواجها، وشرّد أسرتها، وفرق بينها وبين طفليها، وانتزع منها كل شيء.إن موت فاتن المأساوي سيظل عالقًا في وجدانها، لن تنساه أبدًا.لقد أقسمت أن تعثر على ذلك المجرم، وأن تردّ له عذابها أضعافًا مضاعفة.لم يُبدِ أحمد أي ردة فعل كبيرة، بل قال بهدوء: "أعتذر، لقد تجاوزتُ حدودي."تداركت سارة صرامة نبرتها وقالت: "الخطأ
الروابط الطبيعية للقرابة لا يمكن بترها أبدًا، حتى وإن لم تكن مارية قد رأت سارة من قبل.كان جلال قد أراها صورةً لسارة، غير أنّ المرأة في الصورة كانت تبتسم ابتسامة دافئة، وشعرها ينسدل حول وجهها.وليست كما هي الآن، نحيلةٌ حتى العظام، شاحبةٌ متعبة.ومع ذلك، فقد تعرّفت مارية إليها من النظرة الأولى، أدركت أنها أمها.ردة فعل سارة لم تختلف عن ردة فعل أحمد، عانقت طفلتها بقوة، والدموع تنهمر بلا توقف.كانت تلك دموع الفرح بلقاءٍ مرتقب، وفي اللحظة التي ضمّت فيها جسد طفلتها إلى صدرها، عادت بها الذاكرة إلى ما كابدته يوم وضعتها، يوم الميلاد الممزوج بالعذاب.لقد كانت تظن أنها لن ترى ابنتها أبدًا في هذه الحياة، وها هي الآن قد كبرت وصارت بين ذراعيها، طريةً ناعمةً، فكيف لا يفيض قلبها تأثرًا؟ازدادت حيرة مارية، فقبل أيام كان ذلك العم الوسيم يحتضنها ويبكي بكاءً شديدًا، والآن أمها أيضًا تبكي، فلماذا؟ لم تفهم الطفلة الأمر.مدّت يديها الصغيرة ومسحت دموع أمها برفق، ثم نفخت عليها كما كان يفعل جلال كلما أصابها ألم، وهي تهمس: "لا تبكِ، لا تبكِ."كانت تذكر أنّ كل مرة تتألم فيها، يكفي أن ينفخ جلال على جرحها، فتتوقف
ارتسم القلق على وجه سارة، فأسرعت تمسك بكمّ ثوبه وقالت: "ماذا قلت؟ لقد أُخذ، إلى أين أُخذ؟"قال مهدئًا: "يا سيدتي، تريّثي قليلًا ودعيني أشرح لكِ الأمر."أخرج جهازه وفتح مقطع المراقبة: "انظري، هذا هو الرجل الذي أخذه، لكن من الفيديو يبدو أن آدم ذهب معه بمحض إرادته، أظن أنه يعرف هذا الرجل."تحت تأثير تهدئته، هدأت مشاعر سارة قليلًا، وأخذت تشاهد المقطع مرارًا وتكرارًا.بالرغم من أن خلفية المشهد غير واضحة كليًا، لكن الصبي بدا بالفعل أنه ذهب بإرادته، والرجل الذي اصطحبه كان جلال.وحين تأكدت سارة أن من أخذه هو جلال، انزاح عنها بعض القلق.ففي تلك الأجواء المضطربة، لم يكن جلال يعلم بوجودها على السفينة، ولو أنه قفز لينقذ مارية، لربما فقدت طفلَيها معًا.لابد أنه رأى أحدًا قد اندفع بالفعل لإنقاذ الطفلة، ولأنه في الأصل تَسلّل إلى السفينة خفية، فلو كُشف أمره عند المحاسبة لكانت العواقب وخيمة، لذلك لم يجد خيارًا سوى أن يترك مارية ويأخذ آدم معه.كانت مشاعر سارة معقدة للغاية، فما إن عثرت على طفلها حتى واجهت من جديد مرارة الفقد.قالت بتلعثم: "إذن... إذن..."أضاف أحمد: "الفتاة اسمها مارية."رددت سارة بصوت خا
كانت الصغيرة عاجزة عن فهم مشاعر الكبار المعقدة، وعيناها تملؤهما الحيرة، بينما كان قلب أحمد يضطرب بموجات عاطفة عنيفة.قال بصوت خافت: "يا طفلتي الحبيبة، لا بد أنّكِ قاسيْتِ الكثير من الألم خلال هذه السنوات، أليس كذلك؟"ألم؟لم تفهم مارية ما معنى الألم، هي لم تعرف سوى أن وجودها مع أخيها ووالدها كان كافيًا ليمنحها السعادة.قال أحمد بسرعة محاولًا التخفيف عنها: "صحيح، هل تشعرين بالجوع؟" ثم أمر بإحضار الطعام والشراب اللذيذ.وما إن وُضع الطعام أمامها حتى تلألأت عيناها بفرح الطفولة.لكنها حين همّت بتناول الطعام، سرعان ما خفت بريق عينيها، وهمست بقلق: "أخي..."مدّ أحمد يده يمسح على رأسها بحنان وقال: "لا تقلقي، لقد أرسلتُ رجالي ليأتوا بأخيكِ، وستجتمعان قريبًا جدًا، هيا تناولي طعامكِ، وحين يأتي أخوكِ سيكون له نصيب أيضًا."كان واضحًا أنها جائعة، لكنها لم تأكل بنهم، بل تناولت طعامها ببطء، وكأن في داخلها فطرة من التهذيب.ملامحها تشبه ملامحه، لكن تصرّفاتها وسلوكها ورثت رقة أمها وأناقتها.كلما نظر إليها أحمد ازداد قلبه غبطة، ولم يكن مهمًا إن لم تستطع أن تناديه "أبي" الآن، فمجرد بقائها حيّة يكفيه.وحين ت
في تلك اللحظة، دوى صوت طرقات خفيفة على الباب، ذلك الصوت الضعيف كان كمن سكب دلواً من الماء البارد فوق جسد أحمد.فكَّ أحمد ذراعيه عن سارة على عجل، ما الذي كان يفعله؟ كيف سمح لنفسه أن يستغل نوم سارة ليقوم بأمر كهذا!لو أنها استيقظت في هذه اللحظة، لما استطاع أن يبرّر موقفه حتى لو غاص في أعماق البحر.أسرع أحمد نحو الباب، وعلى وجهه الوسيم ارتسمت لمحة توتر، وقال بصوت منخفض: “ماذا هناك؟"كان خالد يفرك عينيه بتعب، أهو مجرد وهم، أم أنّ وجه أحمد بدا وكأنه محمرّ؟قال خالد مترددًا: "هذا... الدواء الخافض للحرارة الذي طلب الطبيب مني إحضاره، يمكن إعطاؤه للسيدة سارة."أخذ أحمد العلبة بصمت وأجاب: “حسنًا... هل تم العثور على الرجل؟"ردّ خالد: "الليل قاسٍ في البحر الآن، والرياح والأمواج عاتية، الطائرة المسيَّرة لم نستطع التحكّم بها، ولم يُعثر على أثره بعد، لكن اطمئن، فهو يحمل الصغير معه، فلا يمكن أن يذهب بعيدًا."قال أحمد: "حسنًا، ما أن يظهر أي خبر، أخبرني فورًا."أجاب خالد: "حسنًا يا سيدي."ثم أغلق أحمد الباب وعاد إلى جوار سارة، لكنها لم تُبدِ أي إشارة للاستيقاظ، فوضع يده على جبينها، فإذا بحرارتها لم تهدأ