ما إن سمعت نور كلامه، حتى قبضت على كفيها لا إراديًا، وتجنّبت نظراته، خشية أن تبدو كمن تظن بنفسها أكثر ممّا تستحق، وقالت: "الاهتمام هو ما يدفع الإنسان إلى التغيير، لكن، لماذا يُهمّك أمري أصلًا؟"نظر إليها سمير، وقال بهدوء: "أنتِ زوجتي".عَضّت نور على شفتيها، وحركت الشوكة في وعاء الطاجن دون أن تأكل، وقالت بصوت خافت: "ألم نتفق على الطلاق؟ لم تعد حُجّة أني زوجتك كافية، لم أرَك تتغيَّر من أجلي في السابق، أما الآن...فصرت تهتم فجأة!"لم يُجبها سمير، بل ثبت نظره عليها، وكأنّه يُفكر بعمق.أما هي، فشعرت بنظراته عليها، لكنها لم تنتظر رده، وانحنت تتناول طعامها."أظنني أحببتك.""كح كح كح كح..." عبارة خفيفة، لكنّها اخترقت صدرها كالسهم، شهقت، واختنقت بالمرق الحارّ الذي لسع حنجرتها، فسعلت بشدة، وكأنّ الحريق اشتعل داخلها.أسرع سمير بسكب الماء لها، ومدّه إليها وهو يقول بقلق: "هل أنتِ بخير؟ اشربي، اشربي ماء!"نزلت دموع نور فجأة، غشي عينيها الضباب، ولم تعد تدري معنى هذه الدموع.أتلك دموع سنوات الانتظار، وقد جاءها أخيرًا يخبرها أنه يحبها؟أم دموع الاختناق؟أخذت كوب الماء، وشربت.لكن النكهة الحارّة بقيت عا
صُدم المدير أحمد من جديد، إذ لم يتوقّع أن تكون الأمور هكذا، فقال: "لم أعلم بالأمر إلا اليوم، لا تأخذ الأمر على خاطرك إن كنتُ قد تفوّهتُ فيما مضى بما لا ينبغي".لم ينسَ بعدُ كيف حاول من قبل التوفيق بين نور ولاشين.ولم ينس أيضًا تصرفات ابنته.أجابه سمير: "أنت تُبالغ في التفكير. الوقت تأخّر، فلن أُطيل البقاء".كان المدير أحمد رجلاً ودودًا، فنهض بنفسه ليُرافقهم إلى الخارج....دقّت عقارب الساعة منتصف الليل.استلقت نور على فراشها، فإذا بجوعٍ خفيف ينهش بطنها.صارت في الآونة الأخيرة تجوع بسهولة. وازدادت شهيّتها للأطعمة القويَّة المالحة والحارّة.وأصبحت تتحمّل المذاق الحار أكثر من ذي قبل.لكنّها كانت نعِسة، لا رغبة لها في الحركة، فآثرت النوم.لفّت جسدها باللحاف، واستلقت على جانبها محاوِلة النوم.وما لبثت أن سمعت طرقًا على الباب، حتى استيقظت على الفور.قامت من فراشها، وتوجّهت لفتح الباب.لتجد أمامها سمير بهيئته الطويلة، واقفًا عند الباب.ذهب النعاس من عينيها فورًا.ظنَّت أنه قد ذهب إلى بيته، فقالت: "لمَ عدت؟"أجابها قائلًا: "قلقت عليكِ، فجئتُ لأتفقّدك"."أنا في منزلي، ما الذي قد يُقلق؟"نظر سم
ظلّ المدير أحمد صامتًا لبرهة طويلة قبل أن يُحول نظره إلى سمير، وقد تحوّل الذهول على وجهه إلى دهشة خالصة، لم يفهم لمَ كلّ هذا الاهتمام بالأمر، وقال: "لمَ أنت مهتم بهذا الأمر فجأة؟ حتى وإن لم تكن الفتاة المخطوفة هي نور، فما أهمية ذلك بالنسبة لك؟"لم تكن في تساؤله نبرة مكر أو نية في الإخفاء، بل بدا من حديثه أنه لا يحمل نية سيئة.أرخى سمير شيئًا من حدّة نظراته، وقال بصوت خافت: "أنا أُجري تحقيقًا في أمر معين، وصادف أنني وجدت هذه القصة. أردت فقط أن أستوضحها منك. إن لم تكن الفتاة المخطوفة هي نور، فلمَ تحتفظ نور بذاكرة تُصوّرها وكأنها كانت هي؟ هما تحملان نفس الاسم، إن لم تكن هناك نية لإخفاء الحقيقة عنها، فكيف دخلت هذه الذاكرة إلى عقلها؟"تغيّرت ملامح المدير أحمد عدة مرات. "يا مدير أحمد، هذه الحادثة وقعت في المدرسة التي تُديرها، هل يمكنك أن تقدم تفسيرًا لها؟" قال سمير، راغبًا في معرفة تفسير منطقي.أم أن هناك خلف هذا الأمر مؤامرة أكبر؟ارتبك المدير ثم تنهد، وجلس أكثر انتباها، وقال بأمانة: "في الحقيقة، لا أملك جوابًا شافيًا، لكن يمكنني أن أخبرك بما أعرف".أظلمت نظرات سمير.تناول المدير أحمد صورة
حين ذُكر اسم سمير، انتاب نور شكٌّ كبير لم تستطع تجاهله.وضعت يدها على شاشة الهاتف، وتردّدت طويلًا.لكن، ما دام هناك سؤال يشغلها، فلا بد من طرحه، فكتبت: "أمي، هل حصل يومًا في الثانوية أن قضيت عطلة صيفية خارج البيت؟"فما دام سمير قد أثار هذه الشكوك، أرادت أن تتحقق هي الأخرى.لكن سوسن لم تردّ لفترة طويلة.جلست نور تترقّب الرد.كانت المحادثة تسير بسلاسة قبل لحظات، فما الذي أخر الرد فجأة؟ تسلل إليها شعور غريب بعدم الارتياح.ثم بعد عشر دقائق أخيرًا.جاء الرد من سوسن."من الذي قال لك هذا الكلام؟"ردّت نور بتردد: "لا أحد، فقط خطر ببالي وسألت".ردَّت أمها: " أنتِ منذ صغرك وحتى الآن، باستثناء أوقات العمل، كنتِ دائمًا في البيت، عائلتنا كانت صارمة في التربية، فكيف يعقل أن تقضي إجازة صيفية كاملة خارج البيت؟ لا تفكري بهذه الطريقة، ولا تصدقي كلام الناس الفارغ!"فكّرت نور قليلًا، ورأت أن كلام أمها منطقًا.كل أقاربهم في نفس المدينة. وإن كانت قد ذهبت لزيارة أحد، فلا يعقل أن تغيب شهرًا كاملًا.وحتى إن لم يكن بيتهم من بيوت المثقفين، إلا أن تربيتهم كانت صارمة بالفعل.فأزاحت تلك الشكوك من رأسها، وقامت لتغس
لم تتذكّر نور على الإطلاق أنها اختفت صيفًا كاملًا، وكانت متأكدةً من ذلك.وثقتها تلك جعلت الشك يتسلل إلى قلب سمير.ربما كان ذلك الصيف الذي اختفت فيه مختلفًا، ليس صيفًا عاديًا.لم تلحظ نور أن ثمّة أمرًا غير طبيعي، فأشارت نحو التقاطع أمامهم وقالت: "اقتربنا من بيتي، أوقف السيارة عند أسفل المبنى".داس صلاح على المكابح، وأوقفَ السيارة بثبات عند الزاوية.نزلت نور من السيارة."سأذهب الآن، عُد إلى البيت مبكرًا." رغم أنه هو من أوصلها، إلا أنها ما زالت تحافظ على قدرٍ من الأدب.بقي سمير في حيرته، لم يعرف أين أخطأ تحديدًا.لما رأت نور أنه صامت يفكر، لم تنتظر ردَّه، وسارت وحدها إلى داخل الحي السكني.رآها تمضي في طريقها دون أن تلتفت، فلم ينزل، بل غرق في دوامة لا متناهية من الأسئلة بلا إجابات.سأل: "هل كان ملف معلومات نور ناقصًا في شيء؟"كان صلاح هو من تكفل بجمع المعلومات، قضى وقتًا طويلًا من أجل الوصول إلى ذاك الرجل المسمَى بروميو، فقال: "لا، تحققت من كل ما يُمكن معرفته، ربما مرَّ الكثير من الوقت حتى نسيت هي ما جرى".سأله سمير: "وأنت، هل نسيت ما جرى لك في السادسة عشرة أو السابعة عشرة؟"أجاب صلاح بدون
سألت نور: "ماذا تريد أن تقول؟""ربما تكذبين وتدّعين أن الطفل يعود إلى لاشين، فقط لأجل أن تتطلقي منِّي."لم تتجاوز عدد المرات التي كذبت فيها نور على سمير عدد أصابع يد واحدة.وما كانت لتكذب عليه ما لم تُجبرها الظروف.أما قصة أن الطفل ينتمي للاشين، فهي ليست من قولها أصلًا.لم تعترف بذلك قط.استدارت نور نحوه وسألته بحدة: "إن لم يكن للاشين، أهو ابنك إذن؟"غاصت نظرات سمير في العمق وهو يقول: "من هو روميو حقًا؟ أهو شخص حقيقي في حياتك؟ أم مجرد اسم اخترعتِه لتثيري غضبي؟"فقد بحث عنه لوقتٍ طويل.نبش ماضيها منذ الطفولة، فتّش كل من عرفته أو تعاملت معه، ولم يجد أحدًا بهذا الاسم.ربما يكون اسمًا مستعارًا أو كنية.ومع ذلك...لا أثر له.حين وصل الحديث إلى هذا الحد، انقبض قلب نور، وأحكمت قبضة كفيها دون وعي.هل عليها أن تدفن هذا السر إلى الأبد؟إن كان يملك شيئًا من الإدراك، فلا بد أن يخمِّن في يوم من الأيام.وحتى لو باحت له به، فربما لا يغيّر ذلك شيئًا.إن لم يكن يتذكر، فسيبقى ناسيًا إلى الأبد.قالت: "هو شخص حقيقي. لم أكذب عليك".نظرت إلى سمير، لا بعداء كما في السابق، بل أكثرت من الكلام: "لقد أنقذني، في ذ