LOGINاستغرقت خمس سنوات حتى أصل إلى جمال، لكنه لم يحتاج سوى ليلةً واحدة ليجعل كل ما بذلته يضيع هباءً.ابتسمت بسخرية، وحاولت أن أحافظ على ما تبقّى لي من كرامة، فتحتُ الباب دون أن ألتفت وقلت: "تفضل بالدخول، واجلس."لمعَت عينا جمال، وتبعني على الفور.سكبتُ القهوةً ووضعتها أمامه: "قطعتان من السكر، بدون حليب"، وجلسْتُ على الأريكة المقابلة.قال جمال بصوت أجش بعض الشيء: "ألا تزالين تتذكرين."ابتسمتُ ولم أعلّق.قلت بهدوء: "بما أنك جئتَ إليّ، فلا بد أنك رأيتَ اتفاقية الطلاق.""لا أريد نصف ثروتك، كل ما أريده هو حضانة زين."حبس أنفاسه، ورفع رأسه إليّ: "لين، أنا لا أوافق على الطلاق."أومأتُ بلا مبالاة، فقد توقعت ذلك منذ البداية: "لا بأس، أستطيع الانتظار لثلاث سنوات حتى الانفصال."وضع جمال كأسه على الطاولة بقوة فصدر صوتًا مزعجًا، ثم قال: "لين، هل ترغبين فعلًا في تَرْكي؟""لا تنسي أنه قبل ست سنوات، أنتِ من صعد إلى سريري طواعية."شعرتُ بألم حاد في قلبي، ونظرتُ إليه غير مصدّقة، وأخيرًا فهمتُ كل شيء."ماذا؟""جمال، هكذا كنتَ تعتقد كل هذه السنوات.""لا عجب، لا عجب إن تغيرت في صباح اليوم التالي.""ظننتُ أنك شخ
قضى جمال تلك الليلة جالسًا على أرضية المطبخ، طيلة الليل، كانت تلك أوّل مرّة يبدو فيها بهذا القدر من الانكسار.في الماضي، كان مهما عاد متأخرًا إلى المنزل، كان هناك دائمًا مصباح مُضاء من أجله، وكانت هناك دائمًا امرأة تجلس على الأريكة في هدوء، تنتظر عودته، ولكن الآن، لم يعد هناك أيّ شيء من ذلك.لم يتبقى في الفيلا الواسعة سواه، ينتظر وحيدًا حتى يطلع النهار.في اليوم التالي، ذهب جمال إلى الشركة مباشرة دون أن يغيّر ملابسه، وما إن فتح باب المكتب، حتى رأى أن المكتب قد رُتب بالكامل، الترتيب الزائد جعل المكان يبدو قاسيًا.كانت هناك فقط أوراق موضوعة فوق المكتب بهدوء، كما لو أنّها صندوق سحري ينتظر من يفتحه.فتح الملف ويداه ترتجفان، فظهرت أمامه كلمات صارخة:[بسبب عدم التوافق بين الطرفين، تأكّد للطرفين أنّ العلاقة الزوجية قد انهارت، ولا إمكانية للصلح].[وبعد التشاور، وافق الطرفان طوعًا على الطلاق، ويبرمان فيما بينهما الاتفاق التالي…][الزوج: جمال السعدني][الزوجة: لين الزغبي]تمتم بمرارة: "إذًا أنتِ حقًا تريدين الرحيل".ابتسم ابتسامة باهتة، وامتلأت عيناه بحمرة لا وقت لها، لقد فكّر مرارًا في الانفصال
بعد أن تحمّل حفل العشاء حتى نهايته، غادر جمال المكان هاربًا بعد أن ودّع المضيفين، وما إن وصل إلى البيت، حتى بدأت أثار الكحول تغمره.وضع يده على رأسه، وفتح الباب مترنّحًا: "لين، أحضري الماء."انطلقت كلماته في صمت تام.رفع رأسه وحدّق في الصالة المعتمة، حينها أدرك…لقد غادرت أنا وابننا بالأمس.أضاء الأنوار، واتجه إلى المطبخ.فتح الثلاجة وأخذ عبوة مشروب غازي، ولما همّ بإغلاق الباب لاحظ أنّ باب الثلاجة مغطى بملصقات بأحجام مختلفة، معظمها لشخصيات كرتونية يحبها الأطفال.وبينما كان يراها دائمًا طفولية ومبالغًا فيها، ضحك هذه المرّة ضحكة خفيفة لم يستطع منعها.وكأنّه يرى زين يتسلل بخطوات صغيرة إلى مكتبه، يحمل كتاب أطفال بين يديه، ويقف أمامه بحذر قائلًا: "أبي، هل يمكنك أن تقرأ معي؟"فماذا قال له حينها؟توقف جمال عن شرب الماء، وغامت عيناه، ثمّ قال يومها: "أنا مشغول… ليس لدي وقت."وبمجرد تذكّر ذلك أثار في صدره ضيقًا مجهول المصدر، أخرج هاتفه، ولم يستطع منع نفسه فأرسل لي رسالة.كتب: [أرسلي لي العنوان، سآتي غدًا لاصطحابكما إلى البيت].ثمّ شعر أنّ هذه النبرة غير مناسبة، فقام بتعديلها: "أين كنتما تقيمان ه
ومض في ذهنه صورتي أنا وابننا ونحن نغادر، فخفق قلبه بشدّة.ربما عليه أن يتوقّف عن هذا السلوك الطفولي.وربما، بعد كلّ هذه السنوات، تغيّرتُ فعلاً.وربما…اصطحب جمال شيماء إلى حفل عشاء أقامه أحد الشركاء في تمام السادسة مساءً، وقد مضى يوم كامل دون أن يراني، فظلّ ممسكًا بكأسه شارد الذهن.هل تجاوز حدودَه هذه المرّة؟، ومضت هذه الجملة في ذهنه فجأة.ضمّ شفتيه، وابتلع ما في كأسه دفعة واحدة، ثم أخرج هاتفه، وهمَّ بإرسال رسالة لي، لكن أحد الشركاء تقدّم نحوه فقطع حركته قائلًا: "يا سيد جمال، بخصوص الخطة السابقة…"توقف جمال للحظة، ثم أخفى كلّ أفكاره ودخل فورًا في وضع العمل، وأثناء انغماسهما في حديثٍ وديّ، اقتحمتهما نبرة مزعجة: "يا سيد جمال، هذه الحلوى لذيذة جدًا!"جاءت شيماء حاملةً كعكة شوكولاتة صغيرة، وفي عينيها صفاء يخلو من خبرة الحياة، انقطع الحديث، وتغيّرت ملامح الجميع باندهاش .لكنها لم تستطع قرأة التعبيرات، فتقدمت مبتسمة أمام جمال، واقترّبت بكعكة الشكولاتة من فمه، ولأنّه لم ينتبه؛ تلطخ وجهه بالشوكولاتة والكريمة.فزعت شيماء، ومدّت يدها لتنظف وجهه، تراجع جمال فجأة خطوة كبيرة إلى الوراء، وكأنه يتفاد
حين وقع بصره على الرسالة البارزة في البريد الإلكتروني، تسلّل إلى قلبه شعورٌ بعدم الطمأنينة، وبينما كان على وشك فتح الرسالة، دخلت شيماء تتمايل براشقتها.همت بوضع التقرير على المكتب وقالت: "يا سيد جمال، ها هو التقرير السابق"، ثم اقتربت منه بخفة، ووضعت يدها على كتفه كما اعتادت دائمًا، كان ذلك نوعًا من التفاهم المتبادل بينهما في السابق دون الحاجه إلى كلام، أمّا الآن، شعر جمال فجأة بعدم ارتياح.جلس جمال مستقيمًا، وفتح التقرير. لكن ما إن قرأ الصفحة الأولى حتى قطب حاجبيه، فالصفحة بأكملها... لا شيء فيها صحيح سوى التنسيق، حتى اسم القسم كُتب خطأ.ألقى التقرير على المكتب بغلظة، وقال ببرود: "من قام بإعداد هذا التقرير؟ ألا يمتلك حتى أبسط مهارات العمل؟""اطلبي من السيد شاكر الحضور فورًا، كيف توظّف إدارة الموارد البشرية مثل هؤلاء؟!"تغيّر لون وجه شيماء على الفور، وقالت: "أنا مَنْ أعدّ هذا التقرير."تحولت كلّ نبرات الغضب داخله إلى صمت على الفور ونظر إليها وإلى ارتجافها خوفًا، ولأول مرّة غمره شعور بالعجز.نظرت إليه شيماء وقالت وهي تكاد تبكي بصوت ناعم ضعيف: "هل تراني غبية؟"ومسحت دموعها بعنادٍ بريء: "إن
تفاجأت شيماء وتسائلت: "مساعدة لين، ماذا تفعلين في منزل السيد جمال؟"ما إن سمعتُ سؤالها حتى سحبتُ ابني بسرعة خلفي لأحجب رؤيته قائلة: "أنا..."لكن جمال قاطعني قبل أن أكمل حديثي: "إنهم أقاربي، يقيمون في منزلي مؤقتًا."شددت قبضتي على الحقيبة، ورغم أنّها لم تكن المرّة الأولى التي أسمعه يقول ذلك، إلا أنّ قلبي يتألم كلما سمعت ذلك.كنت على وشك الكلام، لكن ابني سبقني قائلًا: "مرحبًا يا عمّي".التفتُّ نحوه بذهول، فلم أرَ سوى عينيه المحمرّتين قائلًا: "أمي، لنذهب."علقت الكلمات في حلقي، فابتسمت بخفوت وقلت: "حسنًا!."وفي لحظة مرورنا بجانبه، أمسك جمال بذراعي، حدّق بي بعدم تصديق: "زين!.. بماذا نادني للتو؟"ابتسمت ابتسامة ساخرة: "أليس هذا ما رغبتَ فيه دائمًا.. يا سيد جمال؟"طوال ست سنوات من الزواج السريّ، لم يكتفِ بعدم الاعتراف بي زوجةً له، بل لم يسمح لابنه يومًا أن يناديه يا أبي.الفرق الوحيد الآن، أنه في الماضي، كان يجبر الطفل على مناداته "عمّي"، أما الآن، فالطفل هو من يريد الابتعاد عنه من تلقاء نفسه.خفضتُ بصري، وحاولتُ بقوة سحب ذراعي من قبضته، لكنني لم أستطع.نظر جمال إليّ، وعيناه تمتلئان بمشاعر م







