LOGINمع كل كلمة تنطق بها، كان يشعر كأن سلكًا فولاذيًا رفيعًا يلتف حول قلبه رويدًا رويدًا، يشدّه حتى يعجز عن التنفّس، يشتد الألم في صدره أكثر فأكثر.كانت نيرة فعلًا مثل الضباب.يلمسها لكنه لا يستطيع القبض عليها، تتفلّت من بين أصابعه وتتبخّر.شرب باهر جرعة كبيرة من عصير البطيخ، وفيه بعض القطع الصغيرة من اللب، فاختنق فجأة وبدأ يسعل بعنف، احمر وجهه، وانحنى ببطء، جبينه يتصبّب عرقًا، وعروق عنقه بارزة تحت بشرته الشاحبة.ساعدته نيرة، وأخذته إلى زاوية يقلّ فيها الازدحام، وفتحت حقيبتها وأخرجت مناديل وناولته.لم يتحرّك، فمدّت يدها ومسحت بلطف طرف شفتيه.ضمّها باهر بقوّة.ثم سأل بصوت منكسر، "أنتِ لن تتركيني، صحيح؟""لقد أجبتك من قبل." قالت نيرة، وهي تربّت على ظهره، تلامس بأناملها بروز عظام عموده الفقري."قوليها مرة أخرى، أرجوكِ."توقفت نيرة لثوانٍ قليلة، استشعرت حدّة مشاعره، وانتقت كلماتها بحذر، "لن أتركك.""لا تترددي، قوليها أسرع."لم يفرح بإجابتها، لم تهدأ مخاوفه، بل شدّه ترددها القصير ثانية أو ثانيتين، يشدّ قلبه، فقبض بقوة على معصمها النحيل، كان يخاف من ذلك التردد.فقالتْ مازحة بصوتٍ خافت أجشّ، "لو ت
دفنت نيرة وجهها في كتف باهر العريضة، وظلّت تهدأ لوقتٍ طويل.ربّت باهر على ظهرها وهو يقول، "سنعيش في مدينة الذهب، وإن لم يعجبك المكان فلن نبقى هنا، وسأعود إلى مدينة الزهور كل فترة لأمكث هناك بضعة أيام."أغمضت نيرة عينيها، وفجأة اجتاحها نوع عميق."حسنًا."قال بصوتٍ خافت، متثقل الندم، "لم أشكّ فيكِ يومًا. لو كنت أعلم حينها أنّني في المستقبل سأندم على تلك اللحظة حدَّ الاحتراق، وأنّ قلبي سيلتهب ولا يهدأ، وأنّ النوم سيهجرني، لضربت نفسي حتى أستفيق."كان سيحاول إيجاد حلٍّ وسط."أتعلمين؟ لو أنّني لم أهدّدك حينها لأكون حبيبتك، ربما كنّا الآن مجرد زميلين غريبين، زميلَي ثانوية لا أكثر. وعندما ينظّم فارس لقاء الأصدقاء، سنحضر ونلتقي، ونتبادل نظرة عابرة، ثم يمضي كلٌّ منّا إلى زواجه وعائلته وحياته الخاصة."رفعت نيرة وجهها عن كتفه. كان على وجنتيها احمرار لم يزل بعد قبلاته، لكن صوتها خرج خفيفًا وباردًا وهي تنطق، "خطّان لا يلتقيان."مساران من الحياة، لا يتقاطعان أبدًا."لا."ارتجّ جسده، وانقبضت عيناه السوداوان فجأة وقال، "افتراضكِ هذا لن يحدث."قاد السيارة، وبعد عشرين دقيقة دخل شارع الجامعة، وتحديدًا إلى
وقع صوته الأجشّ الواثق عند أذنها.كان باهر يمسك كتفي نيرة بكلتا يديه، يرفع وجهها قليلًا، يصرّ أن تنظر في عينيه.ثم كرّر كلامه من جديد، فيما غصّة مريرة تصعد من صدره، وهو يحدّق في عينيها الغارقتين بضباب الذكرى، بريق الحزن فيهما واضح، يمتدّ كالماء حين يغمر القطن ينهكه ويخنق أنفاسه.في اللحظة التي بدأت فيها تلك الحادثة تتفشّى في أرجاء الجامعة، كان يعرف أن صفاء لم تكن هي من سرقت المال.وكان ذلك مخزيًا على نحو يصعب احتماله؛ أن تُرفَع على عائلة الدالي المعروفة بسمعتها الناصعة ومكانتها الرفيعة تهمة كهذه أن تُربّى في بيتهم "ابنة مدللة" سيئة السلوك، مكسوّة بهالةٍ براقة من الخارج، بينما هي، كما ادّعت الشائعات، تسرق بضعة مئات من الدولارات من مصاريف الصف. وحينها، كان لا بد من التستر، من صمت يحفظ ماء وجه العائلة.حتى اليوم، لا يعرف والدا باهر أن مثل تلك الفضيحة كادت تقع.ضمّ باهر نيرة إلى صدره.وقال بنبرة مبحوحة ترتجف قليلًا، "في ذلك الوقت، كانت أمي قد خرجت من جراحة قلب معقدة. نسبة نجاحها لم تتجاوز العشرين بالمئة، وكانت مجازفة صعبة. أنا آسف."كان يعرف أن تلك الحادثة حفرت ندبة فلن تلتئم في قلب صفاء.
لو كان هذا في الأوقات العادية، لوقفت ولاء أمام ابنتها ودافعت عنها بكل ما أوتيت من قوة.لكن اليوم… لم تعرف ولاء ما الذي أصابها. كان وجهها غريبًا، مضطربًا.كأنها سمعت شيئًا صادمًا.قالت بصوت مرتجف، "هل قلت إنها…"ثم وقع بصرها فجأة على يد نيرة، ورأت بوضوح كتابين أحمرين. فارتجفت حاجباها بشدة، وتغيرت ملامحها بالكامل، حتى إن كلماتها خرجت مرتعشة، حادّة، "هل أنتما… تزوجتما؟!"قال باهر ببرود وهو يحدّق فيها، "يا زوجة أخي، هل لديكِ اعتراض؟"كان صوته منخفضًا، باردًا، يحمل تحذيرًا لا تخطئه الأذن.صرخت ولاء، وهي تشير إلى نيرة بأصابع ترتجف، "كيف… كيف تتزوجان؟! باهر، لا بد أن هذه المرأة خدعتك!"زواج نيرة من باهر، أليس هذا يعني…لكن علاقتها هي نفسها بنيرة، لم تستطع الإفصاح عنها. وقبل أن تنطق، جاء صوت يزيد منخفضًا، زاجرًا، "ولاء."لم يكن يزيد غافلًا عن مدى حرص شقيقه على نيرة.كان مستغربًا للغاية، فهما الليلة كانا يرافقان ابنتهما يسرا في الحفلة الموسيقية. ولما سمع أن باهر سيأتي إلى المنزل بحبيبته، زوجة أخيه المستقبلية، كيف له ألا يعود؟ فقد كان هذا حدثًا مهمًا في العائلة.فاقترح أن يترك ولاء مع يسرا، وأن
بينما كانت نيرة، ذات القامة الرشيقة والظهر الرقيق، تبتعد، نظرت هويدا إلى ابنها، وخفضت صوتها قائلة، "هل استخرجتما شهادة الزواج فعلًا؟ لا تكذب عليّ، إذا خدعتنا أنا وأباك، فسأضطر للبقاء في المستشفى الليلة."أما سالم فقد أطلق شهقة باردة، وقال بصوت غليظ، "تتزوجان خلسة دون أن تخبرانا، وحتى بدون توقيع عقد ما قبل الزواج، هل تبقى لي مكان في قلبك أو مكان لأمك؟ إذا حاولتما خداعنا بزواج وهمي، سأرسل قاسم إلى مكتب الأحوال المدنية للتحقق، وإذا كان زواجًا وهميًا سأكسر رجلك.""لا داعي لكسره، فهي مكسورة بالفعل." قالها باهر بابتسامة خفيفة، ونبرة هادئة، وهو يلتقط عنبًا أخضر من صحن الفواكه ويضعه في فمه، واضعًا ساقًا فوق الأخرى في وضعية مريحة.كانت ركبته اليسرى لا تزال تحوي شظيتين، ويشعر بألم خفيف هذه الأيام، لكنه لم يظهر ذلك على وجهه.فغطت هويدا صدرها بيدها، مستذكرة ما كان يثير قلقها، "لقد تحسنت الأمور الآن، دعونا لن نذكر تلك الأمور بعد الآن."بعد دقائق من الانتظار، لم تعد نيرة. فنهض باهر للبحث عنها.أخرجت نيرة من صندوق السيارة نسختين من شهادة الزواج. فتحت واحدة بلا وعي، وألقت نظرة سريعة. في الصباح، عند اس
انحنى باهر وعانق نيرة من الخصر وهو يمشي نحو غرفة الجلوس، وهمس في أذنها بصوت منخفض، "وجهكِ صار أحمر هكذا… فيمَ كنتِ تفكرين قبل قليل؟"قالت بنبرة حائرة، "ماذا؟"كان صوته أجش ومنخفضًا، يمر ببطء على أذنها، كأنه يرسم أنغامًا على جلدها.خفضت نيرة بصرها، وخدّها يلمع كما لو أنه غمره الغروب من خلفها، ألوان دافئة ملأت الجو حولها.سارت بجانبه دون أن تردّ عليه.عند دخول غرفة الجلوس، نادى الخدم معًا، "السيد الشاب والسيدة الشابة!" فشعرت نيرة بالحرج، واحمرّت وجنتاها، وجعلها النداء "زوجة السيد باهر" ترتجف من الداخل. فابتسم باهر ابتسامة خفيفة.منذ لحظة دخول نيرة وباهر، سمعت هويدا أصواتهما، حديث خافت، همس بين الزوجين… شعرت بارتياح لأنها رأت الانسجام بينهما. والآن، وهما يقتربان، بدا الثنائي متناغمًا إلى درجة مثالية، جميل وصاحبة جمال طبيعي، يبدو وكأنهما خُلقا لبعضهما.دفعت هويدا قدمها غير المصابة بهدوء على سالم، لتمنعه من العبوس.قالت، "نيرة وصلت."كانت تتذكر هذه الفتاة جيدًا، فقد حضرت يوم عيد ميلاد مهند، ومنذ ذلك الحين لفتت نظر باهر مباشرة.ثم سألت بابتسامة، "أين سوسو؟ لماذا لم تحضري الطفلة؟"كانت محبتها