LOGINقال همام بعد أن أخذ نفسًا عميقًا، وكبح مشاعره: "عملتِ كصحفية حربية طوال هذه السنوات، لا بد أنك تعرفين، إيهاب لم يمت بعد. إيهاب طموحه كبير، وهناك من يدفعه نحو ذلك. أريد منك أن تساعديني في أمر".صمتت نور لثوانٍ قليلة، ثم سألت بهدوء: "أي أمر؟"تمكُّن همام من المجيء إليها يعني بالتأكيد أنها قادرة على مساعدته، وإلاّ لما كان ليطلب منها ذلك أصلًا.أوضح همام بهدوء: "حين استبدلت شهد مكانك، كاد إيهاب يسيطر على سلطة قبيلة العزبي كاملة. إذا عدتِ معي إلى قبيلة العزبي، فلا بد أن يأتي إيهاب".ظل همام يراقب نور بعينين ثابتتين وهو يتحدث. بينما بقيت نور هادئة بلا أي انفعال، وعندما ظن همام أنها لن توافق بسبب صمتها، قالت نور بصوت خافت: "حسنًا، سأعود معك".تذكرت نور كيف كان همام يحميها سرًا عندما خطفتها شهد وكانت مع سمير في قبيلة العزبي.فاعتبرت عودتها الآن مجرد مساعدة له."سننطلق اليوم." كان همام مستعجلًا.أجابت نور: "هل يمكننا الانتظار بضعة أيام؟"لو كانت الأمور كما في السابق، لكانت نور رحلت فورًا، لكن شهاب معها الآن. ماذا سيحدث له لو رحلت اليوم فجأة؟لم يقل همام شيئًا، لكنه أدرك أن نور لديها أمر يشغل ب
"صحفية نور!"جاء صوتٌ يناديها فجأة، فانتزع نور من شرودها.رفعت رأسها تلقائيًا على الفور، فرأت عند مدخل الخيمة رجلًا يرتدي الزيّ العسكري.كان أحد رفاق الجيش.قالت: "نعم، يا رفيق، هل تبحث عني؟"أجابها: "نعم، وصلت شحنة كبيرة من الإمدادات من جهة قبيلة العزبي، وقد حددوا أن تتولّي أنتِ توقيع استلامها بنفسك"."حسنًا، فهمت."خلال السنوات الخمس الماضية، أينما كانت نور، كانت قبيلة العزبي ترسل لها كمياتٍ كبيرة من الإمدادات، كانوا يرسلون أشخاصًا مختلفين، أمّا همام وفرعون فلم يظهر أيٌّ منهما مجددًا.لكن حسابها البنكي ظلّ يتلقى كل شهر تحويلًا ضخمًا منهما.كانت تلك الإمدادات تُنقذ الفقراء والمصابين، وتُحسّن من جودة طعام الجنود، فلم يكن لديها سببٌ لرفضها.خصوصًا وأنها لم تعد تلتقي لا بهمام ولا بفرعون.انحنت تمسح على رأس شهاب الصغير، وقالت: "خالتك ستخرج قليلًا، كن مطيعًا ولا تركض بعيدًا."أومأ شهاب برأسه بصمت.نظرت إليه نور بحزنٍ خافت، أدركت أنه لم يكن ينبس ببنت شفه ما لم يكن هناك حاجةٌ للكلام، إن لم تُرسل السفارة أحدًا في أسرع وقت، فستتواصل مع حازم ليأتي ويراه.إذ أن كره الطفل للتحدث علامة واضحة على ا
أمسك شهاب يدها بيده الصغيرة بإحكامٍ شديد، حتى إن نور استطاعت أن تشعر بعرق كفّه.قالت: "انظر، هل يعجبك هذان الطقمان من الملابس؟"كانت قد أخرجت الملابس بيدها الأخرى،كانت الملابس البيضاء سريعة الاتساخ بسبب حالة الفوضى والحرب المستمرة، فاشترت له طقمًا من الملابس المموّهة، وطقمًا آخر باللون السماوي.وبسبب بُعد الطريق، لم تستطع حمل الكثير، فقررت أنه عندما تُسلمه إلى السفارة وتُكشف هويته، ستترك له بعض الأغراض الأخرى.لكن شهاب لم يلقِ حتى نظرة على الملابس، وكانت عيناه حمراوين وفيهما مسحة خوفٍ ظاهرة.لم تتحمل نور ذلك، فضمّته إلى صدرها بحنان وقالت بصوتٍ مهدّئ له: "لا تخف، هؤلاء جنود من وطننا دولة العرب، ولن يؤذوك مثل جنود الدول الأخرى. لقد وعدتك، ولن أخلف وعدي. هيا، جرّب هذه الملابس."ثم ساعدته على ارتدائها، ولم يعترض، بل أطاعها بهدوء.حملته نور ووضعته على السرير العسكري، وقالت: "من الآن فصاعدًا، عندما أخرج، لا تنتظرني عند باب الخيمة. لو حدث أي شيء، ستكون في خطر هناك. وإذا سمعت أي أصوات غريبة، اختبئ فورًا تحت الطاولة أو السرير، ولا تخرج، مفهوم؟"لم تعد دولة العرب كما كانت ضعيفة قبل مئة عام، فقد
أومأ شهاب برأسه بخفة.ثم تناول البطاطا الحلوة، لكنه لم يأكلها بجشع، بل أخذ يأكل ببطء، فيما كانت نُور تصب له كوبًا من الماء."إن لم يكن هذا كافيًا، سأجلب لك المزيد."هزّ شهاب رأسه نافيًا.عرفت نُور أنه من النوع الذي يفضل الصمت على الكلام.فآثرت ألا تزعجه بتحديقها به وهو يأكل، وانشغلت بترتيب بعض أغراضها داخل الخيمة، وفجأة، دوّى صوت البوق في الخارج.كانت إشارة التجمع.كان هذا يعني أن أمرًا ما وقع في صفوف الجيش.لم تتوقع نُور ما رأت حين التفتت نحوه: كان شهاب قد وضع البطاطا جانبًا، ووقف أمامها منتصب القامة.يؤدي وضعية الانتباه العسكرية، ثم يرفع يده بتحيةٍ عسكرية.تجمّدت نُور في مكانها مندهشة.كيف يمكن لطفلٍ في الخامسة فقط أن يتقن هذه الحركات بهذا الانضباط؟ هل يُعقل أنه ابن أحد الجنود؟قررت نور الاتصال بالسفارة فور اكتشافها لهذا الأمر.إن كان ابن شهيد، فلا يمكن أن يُترك طفل شهيدٍ تائهًا في أرضٍ غريبة.جذبته إليها، جلست القرفصاء في مستوى نظره، وسألته: "شهاب، أنت لست جنديًا، لكنك تعرف هذه الحركات. من الذي علمك إياها؟ هل تتذكر؟"رفع الصبي نظره إليها، ولم يقل شيئًا، كانت عيناه تلمعان كسواد الليل
كان الصبي لا يزال يحتفظ بشعرٍ طويلٍ قليلًا، لو لم تندلع الحرب، ولو لم ينفصل عن والديه، لكان الآن طفلًا سعيدًا يعيش حياة هادئة.مدّت نور يدها وربّتت بلطف على رأسه قائلة بنغمةٍ دافئة: "هل يمكنك أن تخبرني ما اسمك؟ أنت لا تريد البقاء في السفارة، أليس لأن والديك..."خفض الصبي رأسه، وقال: "لم أرَ والديّ قط..."كان صوت الطفل خافتًا مبحوحًا يختلط فيه الحزن بالظلم.لقد أمضت خمس سنوات في سبرابيوم، تُتابع تحوّلها من اضطراباتٍ صغيرة إلى حربٍ طاحنة، وإن لم يكن قد رأى والديه، فعلى الأغلب لم يكن يملك والدين أصلًا منذ البداية.يا له من طفلٍ مسكين!أطبقت نور شفتيها، وجلست قرفصاء، وسألته بهدوء وهي تصب له كوبًا من الماء: "إذًا… ألا تملك اسمًا؟"لكن الصبي لم يتناول الكوب، ولم يتكلم. جلس أمامها مطأطأ رأسه، كأنه ارتكب خطأ كبيرًا ويشعر بظلمٍ لا يستطيع التعبير عنه.تنهّدت نور بخفة. بدا واضحًا أنه يعاني من اضطرابات نفسية. لكن في بلدٍ مزّقته الحرب، من من الأطفال قد يملك قلبًا سليمًا؟ثم راودتها فكرة، لو أنها تعد تقريرًا خاصًا عن الأطفال وكبار السن، ثم توجّه نداءً مشتركًا مع محبي السلام في مختلف الدول، هل يمكن
كان الطفل مثل هر صغير، يستلقي على صدرها مستسلمًا وهادئًا، وراحت كفّه الصغيرة تضغط بخفة على صدرها بقوة مدهشة.كانت نور تنوي أن تُبعد يده، لكنّها سمعت صوته الطفولي اللين يقول بنغمة رخيمة: "دقات قلبك تجعلني أشعر بالأمان..."ثمّ عانقها بشدة.على مدى خمس سنوات من عمل نور كمراسلة حربية، التقت بالكثير من الأطفال، لكن الطفل الذي كان أمامها... شعرت معه بشيء غريب لا تستطيع وصفه.كان صوته طريًّا، وفيه دفء يخترق الأعماق.حملته نور وسارت به خارجةً، لكنها لم تتوقع أن هناك عاصفة رملية، لحسن الحظ صعدت بسرعة إلى شاحنة عسكرية تابعة لجيش دولة العرب."أيها الرفيق، من فضلك، أوصلنا إلى السفارة.""حسنًا، يا رفيقة."لاحظ الجندي الذي كان يقود السيارة بطاقة الصحفية المعلّقة على عنقها، ورأى بين ذراعيها طفلًا صغيرًا. استغرقت الرحلة إلى السفارة أكثر من أربعين دقيقة.وعندما وصلت، حملت الطفل ودخلت السفارة، وأخذت تبحث عن المسؤول لتسلمه له.لكنّ الطفل تشبّث بيدها بقوة.قالت له نور: "لا تخف، هذا من أبناء وطننا، سيساعدنا في العودة إلى البيت، وربما يساعدك في العثور على والديك".كانت تدرك أن الطفل ضاع من والديه.وربما ت







