جميع فصول : الفصل -الفصل 790

838 فصول

الفصل 781

مرّت الأيام بهدوء، وانقضى أسبوعان بهذا الشكل الرتيب، وسارة تبدو راضية تمامًا عن حسني، فقد كان وجوده بالكاد يُشعر به، كأنه ظلّ صامت لا يتدخل في شيء.في النهار، حين تبقى سارة داخل البيت، كان يقضي وقته في الحديقة الخارجية، فلا يخطو نحو غرفة النوم، بل حتى الصالة لم يدخلها قط.وحين تخلد إلى النوم ليلًا، يعود إلى غرفته هو، وفي الصباح التالي، حين تفتح عينيها، تجده قد سبقها إلى التمارين في ساحة الحديقة.وإذا رغبت في الخروج، تناديه ليكون برفقتها، فيدفع كرسيها المتحرك، تارةً إلى السوق لشراء حاجيات، وتارةً يتجول معها داخل الحي.كلماته قليلة جدًا، لا ينطق إلا بما هو ضروري، حتى ليخيّل لمن حوله أنه معدوم الوجود.إلى أن جاء يوم، طرق فجأة زجاج باب الصالة.فتحت سارة الباب، ونظرت إليه ببرود: "ما الأمر؟"ارتبك وجهه الجامد قليلًا وقال: "سيدتي، عثرت للتو في الخارج على قطة صغيرة، رأيتها مسكينة، فهل نحتفظ بها؟"وضعت سارة الكتاب من يدها وحدقت فيه بدهشة: "قطة؟"كان يخفي شيئًا خلف ظهره، وما لبث أن أخرجه بتردد، كانت يداه كبيرتين خشنتين، بينما القطة التي احتضنها أصغر من أن تملأ كفّه.كانت قطة بيضاء صغيرة، بالكاد
اقرأ المزيد

الفصل 782

حين أنهى حسني كلماته، لم يكن أول ما تبادر إلى ذهن سارة هو "شمس"، بل ارتسمت في خاطرها ملامح أحمد.ارتجف قلبها للحظة، فما لبث حسني أن أضاف بصوت هادئ: "من يدري، ربما تكون تلك القطة قد عادت إليكِ حقًا، فالكائنات جميعها تملك روحًا، ولعلها اختارت أن تعود إلى عالمكِ بطريقةً أخرى."عندها فقط استرخى حاجبا سارة، وما إن تبنّت هذا التفكير حتى شعرت أن قلبها صار أخف وطأة.فما من أحد إلا وله ميلاد جديد في هيئة أخرى.شمس كانت كذلك، وهي أيضًا كذلك.وحين وصلا إلى عيادة الحيوانات، انهمك الطبيب في فحص القطة الصغيرة بدقة، وقد لاحظ ارتباك سارة البادي عليها طوال الوقت.وكأنها تخشى أن تكون مناعة القطة الصغيرة ضعيفة، وإن أصابها مرض مثل "طاعون القطط" فلن يكون إنقاذها أمرًا يسيرًا.غير أن الطبيب ما لبث أن نزع قفازيه وقال باطمئنان: "لا تقلقي، القطة سليمة تمامًا، لا تعاني سوى بعض الأوساخ، حتى الطفيليات لم تُصبها، يمكن غسلها جيدًا ثم الالتزام بالتطعيمات في وقتها."تنفست سارة الصعداء.قال حسني: "سيدتي، انتظري قليلًا، سأصطحب القطة لتستحم."أجابت: "حسنًا."جلست تنتظر في الغرفة الزجاجية، وعيناها لم تفارقا القطة ولو لحظ
اقرأ المزيد

الفصل 783

كيف لخاطرها أن يقارن بين أحمد وذلك الرجل البسيط الطبع؟ لقد بدا الأمر مضحكًا وهي تفكر في ذلك.قالت له: "أتحب القطط؟"أجاب بابتسامة خجولة: "أحبها، كنتُ في صغري أربي قطة في بيتنا القديم، غير أننا في الريف لم نكن نُحسن إطعامها كما ينبغي، كانت تعيش على ما يتبقى من طعامنا."لم تفارق البرودة ملامح سارة في الأيام الماضية، أما الآن فقد ارتسم على شفتيها طيف ابتسامة خفيفة.قالت: "بما أنك تحبها، فبوسعك أن ترافقها كثيرًا، فالقطط الصغيرة تملك طاقة كبيرة، بينما صحتي لا تسمح لي بملاعبتها طويلًا."كانت ساقاها ما تزالان ضعيفتين، لا تستطيع الانحناء، وإن تحركت أكثر من اللازم يداهمها الدوار، لكن شمس كانت دومًا هادئة إلى جوارها، تتمدد على ركبتيها أو تلازمها في صبر.حك حسني رأسه وقال: "إن لم يكن في الأمر ما يزعج السيدة سارة، يمكنني أن أعتني بشمس."قالت: "سأكون شاكرة لك."أجاب مسرعًا: "لا شكر على واجب، حقًا لا تعب في ذلك، لكن هل تنوين البقاء هنا طويلًا؟"قالت: "نعم."قال: "انتظري قليلًا إذن."دخل حسني إلى غرفة الجلوس، ثم عاد يحمل بطانية ناعمة وضعها على كتفيها وقال: "سمعتُ السيد باسل يقول إن صحتكِ على ما يرام،
اقرأ المزيد

الفصل 784

قال حسني مبتسمًا: "هل رأيتِ من قبل كهفًا ممتلئًا باليراعات؟ إنه غاية في الروعة، حين تضيء أجنحتها تبدو السماء وقد ازدحمت بالنجوم المتلألئة، وهناك أيضًا مكان يُسمّى بعين الأرض، هو بحيرة هائلة بألوان متعددة، فإذا نظرتِ إليها من السماء بدت كأنها عينٌ عملاقة، أما وادي الموت، فلعلكِ سمعتِ عنه، في جبال القارة القطبية الجنوبية تنحدر الأنهار الجليدية نحو الوادي لتشكّل شلالات من جليد، وما إن تصطدم بجانبي الجبل حتى تختفي، والمشهد آسر بحق."أصغت سارة بكامل شغفها، وعيناها تلتمعان بأمنية دفينة، وقالت: "ليتني أراها بعيني، لا تسخر مني، لكنني حقًا لم أزر في حياتي إلا أماكن قليلة جدًا."ابتسم حسني وقال بثقة: "لا بأس يا سيدة سارة، ستبقين بخير إن شاء الله، لقد رأيتُ بأم عيني مرضى بأمراض اخرى مستعصية ينجون بمعجزة، وعندما تُشفى، ما إن تدفعيني أجري حتى أصحبكِ بنفسي إلى تلك الأماكن، ما رأيكِ؟"هبّت نسائم الليل، محملة ببرودة حزينة، فشدّت سارة البطانية حول كتفيها، ومدّت يدها تلتقط زهرة من زهر البرقوق تساقطت من غصنها.أما شمس، فقد راحت تجري بجنون خلف أوراق البرقوق المتطايرة في الريح.كان المشهد كله يفيض بالسكينة
اقرأ المزيد

الفصل 785

راحت أنامل سارة تداعب عبوة عصير الليمون، كانت باردة، وعلى سطح الغلاف تناثرت حبات من الندى المتجمد، فأضفت برودةً على كفّها.لم تُجب مباشرةً، بل ردّت بسؤال: "وأنتَ؟ لقد تقدّم بك العمر قليلًا، لا بدّ أنّ لك مَن تحب، أليس كذلك؟"ابتسم حسني ابتسامة بسيطة، ولم يُخفِ شيئًا: "نعم، منذ سنوات بعيدة عرفتُ فتاة صغيرة، كنتُ وقتها فقيرًا، مثقلًا بالجراح، ومع ذلك لم تحتقرني، بل أنقذتني، فوقعتُ في حبها من النظرة الأولى."قالت سارة باهتمام: "وماذا حدث بعد ذلك؟"قصص الآخرين دائمًا تبدو جميلة، لا تُثير في القلب حزنًا.قال حسني مبتسمًا بمرارة: "وأيّ بعد ذلك؟! كانت ابنة عائلة محترمة، وأنا رجل فقير على استعداد لبيع كل شيء من أجل المال، كيف أجرؤ أن أطمح إليها؟ لقد كانت مثل القمر، يكفيني أن يظلّ معلقًا في سماء قلبي."سألته سارة: "ألم تُخبرها بمشاعرك يومًا؟"رفع بصره نحو القمر الذي أطلّ بجزء من وجهه بين الغيوم، أما تعابير وجهه فلم تتمكن سارة من رؤيتها.وبعد لحظات قال بهدوء: "لا، فهي بهذا الجمال والصفاء، تستحق أن تبقى بعيدة في السماء، أُراقبها من بعيد فقط، أما لو اقتربتُ… فقد أجرحها بيدي."ابتسمت سارة بسخرية خف
اقرأ المزيد

الفصل 786

سارع حسني بالإجابة: "اليوم الثاني والعشرون، ما الأمر؟"كادت سارة أن تنسى، بعد أيام قليلة سيكون موعد وفاة السيد رشيد.ففي نصف الكرة الجنوبي يختلف المناخ، حتى الزمن صار مشوّشًا لديها.قالت بهدوء: "أحضِر لي بعض الهدايا للعزاء."أجابها: "حسنًا يا سيدة سارة."لم تستطع العودة إلى دولة الشمال، وكان هذا العام الأول بعد وفاة رشيد، فأرادت أن تُقيم له طقسًا تذكاريًا ولو لمرة.كان حسني مطيعًا، بل سريع البديهة، لم يكتفِ بإحضار الهدايا، بل اشترى أيضًا قبعة صوف صغيرة على شكل قطة.لاحظت سارة أنه في كل مرة يخرج فيها يعود ومعه هدية صغيرة لها، تارةً كوب ليمون بارد، وتارةً أخرى حلوى مطلية بالسكر، وهذه المرة قبعة.ترددت في أخذها، فبادر حسني بالقول مرتبكًا: "سيدة سارة، لا تُسيئي الظن، السيد باسل يعطيني أجرًا كبيرًا، وأنا أراكِ مريضة، حزينة، فأحببت أن أشتري لكِ أشياء بسيطة تُدخل بعض البهجة، قيمتها قليلة، آمل ألّا تنفري منها."تأملت ارتباكه، فأدركت شيئًا من طباعه، هذا الرجل يبدو قاسي الملامح من الخارج، لكنه في الداخل رقيق وحنون.مدّت يدها وأخذت القبعة، وارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة: "أعجبتني، شكرًا لك على
اقرأ المزيد

الفصل 787

"بوم… بوم!"تتابعت الألعاب النارية تتفجر في السماء، تذكّرت سارة أنّ آخر مرة شهدت فيها عرضًا بهذا الجمال كان في عيد ميلاد فارس، حين أنفقت صفاء مبلغًا كبيرًا لاستقدام فريق محترف لأجل الاحتفال.لكن في ذلك الوقت لم يكن لديها أي مزاج للاستمتاع، أما الألعاب النارية الأجمل في حياتها فكانت في الخامسة عشرة من عمرها، حين أقام والدها رشيد حفلة عشاء خاصة مزدانة بالأنوار لأجلها.في الخامسة عشرة، كانت بلا هموم، ما زالت ابنة مدللة للقدر، لم تتذوّق جرحًا قط، تنظر إلى المستقبل بكل أمل وأحلام.ذلك الحين، كان والدها رشيد رجلاً رصينًا لطيفًا، والأكثر حنانًا عليها.لا تزال تذكر ذلك اليوم جيدًا، حين جاء كثير من الضيوف إلى منزل عائلتها، جميعهم جاؤوا خصيصًا لتهنئتها.أما شمس، فقد كانت تسترخي بكسل فوق غصن شجرة البرقوق، ترفع رأسها لتتابع الألوان المتفجرة في السماء.حينها ابتسم رشيد برفق وقال لها: "ما دمتِ تحبين هذا، فسأحرص أن يكون لكِ كل عام."لكن بعد ذلك، لم يتكرر الأمر أبدًا.منذ ذلك الحين لم تتذكر سوى يوم وفاة والدها، حتى نسيت أن الغد هو عيد ميلادها هي أيضًا.قبل أربع سنوات، حين كانت حاملًا، ظنّت أن أحمد سيه
اقرأ المزيد

الفصل 788

التفتت سارة نحو الباب بسرعة وقالت: "هل من أمر؟"فحسني لم يكن من عادته قط أن يقطع عليها راحتها، لذلك بدا الأمر غريبًا.جاء صوته مترددًا من الخارج: "آسف جدًّا يا سيدة سارة... هل كنتِ نائمة؟ أعذريني على الإزعاج."فكرت سارة قليلًا، لكنها لم تكن قد نامت أصلًا، فارتدت معطفًا خفيفًا ونهضت، ثم فتحت الباب قائلة: "أنا..."غير أن صوتها انقطع فجأة، إذ وقع بصرها على حسني واقفًا أمامها يحمل بيديه قالب حلوى صغير، تتلألأ فوقه الشموع، فتنعكس أضواءها على ملامحه البسيطة المخلصة، وترتجف أنوارها في عينيه.قال بخجل صادق: "قد يكون الوقت متأخرًا قليلًا يا سيدتي، لكن عيد الميلاد أمر مهم... لا ينبغي أن يمر دون احتفال."وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة وتسعٍ وخمسين دقيقة بالتمام.القالب لم يكن من متجر فاخر، بل بدا أنه صنعه بيديه، فما زالت آثار الدقيق والكريمة عالقة على وجهه وثيابه.تمتمت سارة وقد تسللت إلى قلبها لمسة دفء غير متوقعة: "شكرًا لك."ابتسم حسني وقال بلهجة جادة: "اقتربت الساعة من الثانية عشرة، يا سيدتي، هيا أسرعي وتمني أمنية قبل أن تطفئي الشموع."لم تشأ أن تُكلف نفسها عناء المجاملة، بل أغمضت عينيها ب
اقرأ المزيد

الفصل 789

نظرت سارة إليه باستفهام وقالت: "هل هناك أمر آخر؟"أخرج حسني شيئًا من جيب بنطاله، وعلى وجهه مسحة من التردد والحرج، ثم قال: "هل يمكن أن يخلوعيد الميلاد بدون هدية؟ هذه قطعة صغيرة احتفظت بها منذ سنوات، يوم كنت أتنقل في طرق محفوفة بالمخاطر، طلبتها من معبد آنذاك، وكانت نافعة، مررتُ بمواقف كدتُ أفقد فيها حياتي، لكنني خرجت منها سالمًا، لذلك أريد أن أهديها لكِ يا آنسة سارة."فتح كفه الداكن، فإذا فيه تميمة حظ على شكل هلال، مجوفة من الداخل، بداخلها ورقة صغيرة مطوية على هيئة تميمة حظ أمان.قالت سارة رافضة: "لا يصح، فهي تميمة الحظ الخاصة، كيف آخذها منك؟"لكنه دفعها إلى يدها بإصرار: "احتفظي بها من فضلكِ، أنا لم أعد أعمل في تلك الأعمال الخطرة بعد الآن، أتمنى أن تجلب لكِ حظًا طيبًا، ليست شيئًا ذا قيمة مادية، فلا ترفضيها."رأت سارة إصراره، وفهمت أنها بادرة صادقة من حسن نية. ابتسمت قليلًا وقالت: "شكرًا لك، سأقبلها."بعد أن أغلقت الباب، جلست تتأمل القلادة الهلالية، فلاحظت أنها ليست من ذهب ولا من فضة، بل معلقة بخيط حريري ملوّن، أما مادتها فلم تستطع تمييزها.فهي لا تشبه البلاستيك ولا تبدو كالجاد أو اليشب.
اقرأ المزيد

الفصل 790

وافق باسل على طلبها، ووعدها بأنه سيرتب لها كل ما تحتاجه.شعرت سارة بامتنان حقيقي تجاهه، فأرادت أن تعبّر عن ذلك على طريقتها. في ذلك اليوم طلبت من السيدة خيرية أن تعد مائدة عامرة بمختلف الانواع من الطعام، ثم بادرت بخطوة غير معتادة، إذ دعت حسني إلى مشاركتهم.وقف حسني إلى جانب المائدة متوترًا، وكأنه أدرك ما تخفيه هذه الدعوة.قالت سارة بهدوء: "اجلس وتناول الطعام معنا."تردد قليلًا وقال: "لكن يا سيدتي، القواعد التي وضعتها..."قاطعت كلامه بابتسامة خفيفة: "اجلس، لا بأس."لم يعترض أكثر، وجلس مستقيمًا متحفّظًا، لم يمد يده إلى الطعام، بل التفت إليها وسأل بصوت منخفض: "هل يعني هذا أن السيدة لم تعد بحاجة إليّ؟"كانت سارة قد لاحظت ذلك منذ فترة، فهي لم تعد تعتمد على الكرسي المتحرك، وصارت تخرج وتسير وحدها، كل ما تبقى له من دور هو أن يحمل بعض الأغراض.رغم مظهره البسيط، إلا أنها أدركت أن حسني يملك حسًّا مرهفًا يلتقط ما بين السطور.قالت له بوضوح: "أصبحت قادرة على إدارة حياتي اليومية بنفسي، ووجودك بجانبي لم يعد له جدوى، لكن لا تقلق، لقد طلبت من السيد باسل أن يجد لك عملًا مناسبًا."تذكرت أنها حين وضعت قواع
اقرأ المزيد
السابق
1
...
7778798081
...
84
امسح الكود للقراءة على التطبيق
DMCA.com Protection Status