كانت النار تغلي في صدر جميلة، وكادت تندفع لتواجه ورد وتجادلها وجها لوجه، لكن شيئا من عقلها كبح جماح اندفاعها.فقد كانت تدرك أن الأهم اليوم هو المناقصة، لا الدخول في مشادة مع ورد.قال سليم أخيرا بصوت بارد خال من المشاعر: "رئيسة ورد، لقد أسأت الظن. حبيبتي جميلة لطالما امتلكت أسلوبها الخاص."حاول أن يحفظ لها بعضا من كرامتها، لكن كلماته بدت واهية، أقرب إلى تبرير مكشوف لا يقنع أحدا.فاكتفت ورد بإلقاء نظرة سريعة نحوه، في عينيها امتهان وازدراء.ولم ترد أن تضيع وقتها معه، فتقدمت بخطوات واثقة ترافقها فريقها ودخلت القاعة.أما جميلة، فقد تابعت بصرها إلى ظهر ورد وفريقها وهم يغادرون، وملامحها متجهمة تكاد تنضح سوادا.كانت تعض على أسنانها بقوة حتى غاصت أظافرها في كفها، وقلبها ممتلئ بالغضب والمرارة."ورد… انتظري، اليوم سأجعلك تدفعين الثمن!" قالت في سرها.أحس سليم بانفعالها، فربت برفق على يدها وقال خافتا: "لا تبالي بها، هيا ندخل."أخذت جميلة نفسا عميقا، وحاولت تهدئة نفسها، ثم رسمت ابتسامة مصطنعة على وجهها وهي تتشبث بذراع سليم ودخلا معا القاعة.وبدأت جلسة المناقصة رسميا.توالى ممثلو الشركات على الصعود إ
كانت جميلة في تلك الليلة حقا متألقة، رقيقة، بل أشبه بظل غامض من ذاكرة قديمة.قالت بدلال وهي تتشبث بذراع سليم بصوت فيه رجفة من الترقب: "يا عزيزي سليم، ما رأيك بإطلالتي اليوم؟"استفاق سليم من شروده، فارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة وهو يومئ برأسه: "جميلة… تليق بك."لكن صوته بدا متكلفا، ونظراته شاردة، إذ لم يكن عقله منشغلا بها حقا.أما جميلة، فلم تلتقط اضطرابه، بل غمرها سرور خفي حين سمعت مدحه.فقد بذلت جهدا كبيرا في مظهرها ذاك اليوم، درست صور ورد بدقة، واستعانت بمصممة أزياء لتقليد أسلوبها.كانت تؤمن أن هذه الإطلالة ستأسر عيني سليم، وتجعله يطوي صفحة ورد تماما.سارا جنبا إلى جنب نحو مدخل القاعة، لكنهما ما إن وصلا حتى التقيا وجها لوجه بورد وفريقها.فجأة تجمد الهواء بين الطرفين وكأن الزمن توقف.أول ما وقع بصر ورد كان على جميلة.وما إن رأت زينتها المقلدة حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة باردة.كم هو مثير للشفقة! جميلة لم تكتف بتقليد أسلوب حياتها وملابسها اليومية، بل صارت تقلدها حتى في مثل هذا الموقف الحاسم.أما جميلة، فحين التقت بنظرة ورد الباردة، انكمشت ابتسامتها المتكلفة في لحظة، وكأنها تلق
تأملت ورد رسالة جليل المليئة بالدعم، فارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة، وشعرت بقوة تتدفق في قلبها.وفي الخفاء، بعث سكرتير عادل رسالة نصية إلى ورد جاء فيها: "رئيسة ورد، سليم سيحضر المناقصة مصطحبا جميلة، عليك أن تكوني حذرة."وحين قرأت ورد الرسالة، قست نظراتها وارتسمت على محياها ابتسامة باردة، وقالت: "فهمت، شكرا لك."وفي قاعة المناقصة، كانت القوى المختلفة تتصارع في الخفاء.دخلت ورد القاعة بخطوات واثقة، تتقدم فريقها بثبات.وفي الوقت نفسه، وصل سليم برفقة جميلة متشابكي الأذرع.فتحولت أنظار الجميع نحو هذه الفعالية التجارية المرتقبة.وقد أقيمت المناقصة في أفخم فنادق وسط المدينة، حيث تألقت الثريات الكريستالية مضيئة القاعة وكأنها نهار مشرق.الأرض مفروشة بالسجاد الأحمر، والورود تزين الأركان، بينما عبق العطور يملأ الأجواء، في مشهد يفيض بهاء ورونقا.وصلت ورد مع فريقها قبل نصف ساعة من الموعد المحدد.كانت ترتدي طقما رسميا أسود مصمما بعناية، يجمع بين البساطة والرصانة، فيما لم يخف وقارها الطبيعي وأناقتها الفطرية.وكان فريقها يتبعها بنشاط واضح، وقد ملأت أعينهم لهفة الانتصار.اقترب المساعد نواف وهمس لها:
جلس جليل في مكتبه، وأصابعه تنقر بخفة على سطح الطاولة، بينما غاصت عيناه في عمق بعيد التأمل.ثم التقط هاتفه واتصل برقم ما.وفي الجهة الأخرى، كانت مهارات جميلة في الطبخ تتطور بسرعة مذهلة.فلم تكتف بتعلم صنع أنواع الحلويات الغربية الفاخرة، بل أتقنت أيضا طهي أطباق متقدمة ومتنوعة.وأصبحت تحضر بنفسها غداء سليم يوميا، بأصناف متعددة ومتوازنة غذائيا، مع عناية فائقة بتنسيق الأطباق لتبدو في غاية الجمال.ابتسم سليم ابتسامة نادرة وهو ينظر إلى الطعام المعد بعناية وقال: "حبيبتي، لقد تحسنت مهاراتك في الطبخ كثيرا مؤخرا."طار قلب جميلة فرحا بسماع مدحه، فأجابت بدلال: "حقا؟ طالما أعجبك فذلك يكفيني. سأعد لك الغداء يوميا من الآن فصاعدا، لأضمن أن تتناول دائما طعاما شهيا وصحيا."أومأ سليم برأسه، وأمسك عيدان الطعام وبدأ يتناول وجبته ببطء.كانت الأطباق لذيذة فعلا، لكن ذهنه لم يكن حاضرا مع الطعام.إذ كان يراقب جميلة وهي تتفنن في خدمته، فيما ظل قلبه مضطربا لا يعرف السكينة.في تلك الأثناء، تلقت ورد إخطار التأكيد النهائي من مجموعة الفخم بشأن المناقصة.تأملت رسالة البريد، وارتسمت على شفتيها ابتسامة واثقة.تمتمت بصوت
لكن جميلة لم تلحظ اضطراب سليم، بل تشبثت بذراعه بسعادة وقالت بدلال: "حقا؟ ألم أقل لك إن هذا الفستان أنيق؟ حين أرتديه أشعر وكأنني إنسانة أخرى تماما."ظل سليم صامتا، لم ينبس بكلمة، واكتفى بتركها متشبثة بذراعه.غير أن عينيه وقعتا على وجهها من غير قصد، فشعر أن زينتها اليوم بدت مختلفة عما اعتاده منها.حتى سكرتير عادل لاحظ في الآونة الأخيرة أن تغير جميلة يزداد وضوحا يوما بعد يوم.فقد تغيرت ملابسها، ونبرة صوتها، بل حتى بعض حركاتها الصغيرة صارت محاكاة مقصودة لورد.وكان يراها تتصنع الرقة أمام سليم، فيهز رأسه في سره ساخرا.لقد أدرك ما تفكر فيه، وفهم غايتها، لكنه كان يراها خطة ساذجة تماما.قال وهو يرتب الملفات متعمدا أن يبدو عابرا: "الآنسة جميلة تغيرت كثيرا مؤخرا."رفع سليم رأسه بعينين شاردتين وسأل: "تغيرت؟ بأي معنى؟"ابتسم سكرتير عادل وقال بنبرة ذات مغزى: "لا شيء، فقط شعرت أنها صارت أجمل، وأكثر رقيا."قطب سليم جبينه، وكأنه لم يستوعب الإشارة، واكتفى بالرد ببرود: "أه… حقا."رأى سكرتير عادل بلادة سليم، فلم يشأ أن يزيد كلمة، وإنما أطلق تنهيدة صامتة في داخله.كان يعتقد أن سليم قد عمى قلبه، إذ لم يستطع
أطبقت جميلة شفتيها قليلا في مواجهة تعليق سليم.رمقها سليم بنظرة، ثم آثر الصمت ولم يقل شيئا، بل عاد بمفرده إلى الغرفة.ومنذ ذلك الحين، انشغلت جميلة مؤخرا بحضور شتى دورات التدريب المنزلي.من الحلويات الفرنسية إلى المأكولات اليابانية، وصولا إلى دورات إدارة شؤون المنزل الراقية، سجلت في أنواع متنوعة من الدروس حتى شغلت كل وقت فراغها تقريبا.كانت تتخبط في المطبخ بمهارة ضعيفة، فأحرقت أصابعها وشوت ظهر يدها، لكنها مع ذلك واصلت بحماس لا يفتر.قال فارس وهو يقطب حاجبيه أمام منظر أخته في المطبخ وقد عمت الفوضى المكان: "أختي، ما الذي تفعلينه؟ ألم تكوني تكرهين دخول المطبخ أكثر من أي شيء؟ كيف تغير رأيك فجأة؟"أجابت جميلة دون أن ترفع رأسها، وهي تحاول بحذر انتشال البسكويت المحترق من الصينية: "أنا أتعلم، أتعلم كيف أعتني بسليم. إنه مرهق جدا في عمله مؤخرا، فلا بد أن أفعل شيئا من أجله."اقترب فارس متشككا، والتقط قطعة بسكويت متفحمة، وما إن قربها من أنفه حتى كاد يختنق برائحة الدخان.قال ساخرا: "أختي، أأنت متأكدة أن هذا يصلح للأكل؟ إياك أن يكون اهتمامك سببا في أن ينتهي سليم في المستشفى بدلا من أن يستفيد منه."رم