Share

الفصل5

Author: جنى رائد
(لايكا)

بدأتُ أركض عبر الغابة، وقد عزمتُ أنه إن كان لا بدّ لي من الموت، فلن أموت دون قتال. ومع اندفاعي بين الأشجار، تحوّل حفيف الأوراق إلى دويّ أقدامٍ تركض خلفي. انهمرت الدموع على وجنتي، وتقطَّعت أنفاسي لهثًا وأنا أركض.

كنت ألتفت بين الحين والآخر لعلّي أرى ما يطاردني، لكن الظلام كان كثيفًا، فلم أستطع رؤيته. وعيناي الذئبيّتان لم تعودا واضحتين بسبب ما تعرّضت له من تعذيب. كانت جوي، ذئبتي، منهكة، وقد أغلقت نفسها عني أغلب الوقت.

قبضتُ على الرسالة بإحكام داخل كفّي وأنا أركض، حتى لو متّ، لا ينبغي أن أفقد هذه الرسالة. التفتُّ مجددًا لأرى مطاردي، لكن قدمي اليسرى علقت بغصنٍ صغير أفقدني توازني. سقطتُ، عاجزة عن إمساك نفسي، واصطدم رأسي بجذع شجرة بقوةٍ جعلتني أرى نجومًا تتطاير أمامي.

سقطتُ أرضًا، وشعرت أن هذا هو المشهد الأخير من حياتي، إذ أحسست وكأن رأسي قد انشقّ نصفين ما إن اصطدمت بالأرض، وأن المارق الذي يطاردني سيمزّقني إربًا.

لكن، وقبل أن أفقد آخر خيطٍ من وعيي، أحسست بشيء صخريٍ يطوّقني، لم تكن صخورًا، بل ذراعين قويتين. لم أعد أرى شيئًا، غمر ظلام دامس عيناي، وجفّت شفتاي من الخوف، وكأن حواسي كلّها تخدَّرت ما عدا عقلي الذي أدرك تلك الذراعين.

ارتميتُ في حضنٍ قوي، حضنٍ يفيض منه الثبات والقوة. شعرت بنفسي أرتفع عن الأرض، ثم غرقتُ في ظلمةٍ لا قرار لها.

...

"استيقظي."

همس أحدهم في أذني، ففتحتُ عينيّ على اتساعهما، وتبينت أنه صوت جوي. كانت رؤيتي مشوشة، ورأيت حولي أضواء صفراء باهتة، فاغمضتُ جفنيّ وفتحتهما مرارًا حتى بدأت الرؤية تتضح شيئًا فشيئًا.

"جوي، أين نحن؟" سألتُها، لكنها لم تُجب. وكأنها أيقظتني لتعود وتغلق على نفسها مجددًا.

كان رأسي يؤلمني بشدة، وكأن أحدهم يدقّ مسمارًا فيه. تأوهت من الألم وحاولت الجلوس، لكن وخزةً حادة جعلتني أرتطم مجددًا بما كنت مستلقية عليه، فراءٌ ناعمٌ دافئ. لابد أنني مت، وإلا فكيف لي أن أستلقي على فراءٍ ناعمٍ حريري كهذا؟ رمشتُ مراتٍ عديدة، وبدأت الغشاوة تزول تدريجيًّا.

وحين صارت الرؤية صافية، وجدت نفسي أحدّق في سقف خيمةٍ مزخرفٍ. كان الليل لا يزال قائمًا، والمصابيح تبعث ضوءًا أصفر خافتًا يزيد المكان سحرًا. لابد أن هذه هي حياة ما بعد الموت.

لكن عندما التفتُّ برأسي، كاد قلبي يتوقف، إذ كان الألفا جالسًا إلى جواري على كرسي، ممسكًا بالرسالة، عيناه مشدودتان على الورقة، وفكّه متشنج. جلستُ فزعة، فرفع عينيه من الرسالة وحدّق بي مباشرة.

ارتجف جسدي خوفًا وأنا أرى عينيه الخضراوين تحدقان بي، فتحت فمي لأتكلّم، لكن لم يخرج صوت. قال أخيرًا: "لقد استيقظتِ".

عندها فقط أدركت أنني في خيمته، وعلى فراشه! حاولت أن أنهض سريعًا، لكنه مدّ يده نحوي آمرًا: "لا تنزلي عن الفراش". كانت كلماته حازمة لدرجة جعلتني أستقيم في جلستي. نظر إلى الرسالة ثانيةً، ثم إليّ، وقال ببرود: "لديكِ عشيق".

لم أكن أعلم حتى محتوى الرسالة. لم أكن متطفلة، لذا لم أقرأ رسالة ابن السيدة لينا. والآن أُتّهم بسببها. هل كان هو من في الغابة؟ هل أنقذني ثانية، أم أنه هو الذي كان يطاردني؟

قلت: "أنا..."

فقاطعني قائلًا بنبرةٍ جامدة اهتزت في الغرفة: "لا يهمني". ثم أضاف، بصوتٍ حادٍ هذه المرة: "هل تتمنين الموت؟" هززت رأسي بسرعة، فصاح غاضبًا: "هلّا تكرّمتِ بشرح ما كنتِ تفعلينه في الغابة وحدكِ في ذلك الوقت من الليل؟ أكنتِ تلتقين بعشيقك؟"

عندها فقط استوعبتُ، إن كان هو من حملني من الغابة، فلا بدّ أنه مرّ بي وسط القبيلة، ورآه الناس. سأُقتل لو وصل الخبر إلى السيدة تيريزا وابنتها، وهذا ما أخافني الآن أكثر من أي شيء.

"هل رآك أحد وأنت تحملني إلى هنا؟" خرجت الكلمات من فمي، متفاجئة من نفسي.

تجهم وجهه ونظر إليّ في مزيجٍ من الغضب والاستغراب، ثم فاجئني حين قال: "بعض الناس. لماذا؟"

سألته في خوف: "السيدة تيريزا وإيريكا... هل... هل رأتاك؟"

قال: "لم أنتبه..."

قفزت من على الفراش، متجاهلة الألم والدوار، وانحنيتُ بسرعة.

"شكرًا لإنقاذي، يا ألفا كريم، لكن... يجب أن أذهب الآن."

قال بأمرٍ قاطع: "ابقَي".

تجمّدت مكاني، لكن رأسي واصل الهزّ نفيًا. كنتُ أخاطر بعصيانه، لكني كنت خائفة من العذاب الذي سيلاقيه جسدي إن بقيت هنا وقتًا أطول.

قلت بصوتٍ مرتجف: "سأموت إن بقيت هنا أكثر، آسفة يا ألفا كريم". وبهذه الكلمات اندفعتُ خارج الخيمة دون انتظار أمرٍ آخر منه.

كنتُ مستعدة لمواجهة عقابه لاحقًا، لكن عليّ أن أواجه جحيمي أولًا، لأعرف إن كنت سأعيش لمواجهة جحيمه. كنت قد دنّستُ سلطته مرتين، وأعلم ماذا يعني ذلك لغروره. أعرف أن العقاب قادم لا محالة، إن لم يكن للمرّة الأولى، فبالتأكيد لهذه الثانية، لأنني عصيته بوضوح.

هرولت نحو خيمة مشرفتي، ورأيتُها واقفة مع ابنتها أمامها، تنتظرانني. وكلّما انتظرتاني في الخارج على هذا النحو... لم يكن يحدث شيئًا جيدًا.

Continue to read this book for free
Scan code to download App

Latest chapter

  • خروف في ثياب ذئب   الفصل30

    (لايكا)استيقظتُ عندما تم رُشّ الماء على وجهي. شهقتُ بقوة وسعلتُ بعدما تسلّل الماء إلى أنفي. كانوا قد توقفوا عن ضربي الآن، لكنني كنت مقيّدة بالسلاسل. جاء المحاربون وبعض الشيوخ، وأمروا بالهدوء والنظام، ولم أرَ السيدة زورا على الأرض حيث كانت قبل أن أفقد وعيي. كل ما بقي مكانها هو دمها الذي غمر الأرض، كتذكير خفيّ بأنني لا أجلب سوى المصائب.لم يعد هناك ما يقنعني بأنني لست ملعونة. حياتي كلها سلسلة من الشقاء والألم والحزن، وكل ما يتبعني هو الخراب. ربما كان سيكاني مخطئًا، فأنا أوميغا ملعونة، الوحيدة الباقية على قيد الحياة، وموتي سيكون نفعًا للعالم أكثر من حياتي.لقد حذرني الألفا كريم أن أبقى بعيدة عن المشاكل، لكن يبدو أن المشاكل هي ظلي، يرافقني أينما ذهبت. أعلم أنني سأموت هذه المرة، لأن الألفا كريم ليس هنا لينقذني.إنه في أرض بعيدة، لا يعلم شيئًا عمّا يحدث في مملكته.رأيت السيدة تيريزا وإيريكا من زاوية عيني. دخلت السيدة تيريزا إلى خيمة داخلية، ربما كانت السيدة زورا هناك، بينما تقدمت إيريكا نحوي، وعلى وجهها ابتسامة نصرٍ باردة. كانت تسخر مني، تذكّرني بأنني لم أتحرر منهن بعد، وأن القبول لي

  • خروف في ثياب ذئب   الفصل29

    (لايكا)هززت رأسي نفيًا. تقدّم سيكاني ووقف أمامي ثم قرفص. نظرت إليه بعينين خاويتين، فالتفت نحوي يحثّني على أن أركب على ظهره، لكنني هززت رأسي من جديد. لن أعتلي ظهره، ولن أضعه في موقف حرج مرة أخرى. فبما أن الناس رأونا معًا في العلن، سيصبح من الطبيعي أن يظنوا أنه والد طفلي، إن كنت أحمل واحدًا في أحشائي بالفعل. وأعلم أنه إن وصلت هذه ا لإشاعات إلى الألفا كريم، فلن يرى سيكاني ضوء النهار مجددًا، وأنا لا أريد أن يحدث ذلك.وعندما رفضت، وقف سيكاني، وظننت أنه قد استسلم، لكنه فاجأني حين أمسك بي فجأة وقلبني على ظهره. شهقت بدهشة. بدا سيكاني ضعيفًا في ظاهره، لكنه لم يكن كذلك أبدًا. كان قويًا كأي محارب في القطيع، وإلا لما استطاع حملي بهذه السهولة. حاولت الاعتراض، لكنه أحكم قبضته على ساقيّ بذراعيه، وأدركت أن أي محاولة للمقاومة ستوقعنا أرضًا معًا. فاستسلمت، وتحملت نظرات الكراهية التي كانت تلاحقني من كل اتجاه.وعندما اقتربنا من خيمة السيدة زورا، لم أستطع إلا أن أفتح الموضوع الذي كنت أخشاه. اقتربت من أذنه وهمست: "ماذا لو كنتُ فعلًا حاملًا؟ ألا تزعجك الشائعات؟" كنت أعلم أن خبر ما حدث لي سيتناقل في القط

  • خروف في ثياب ذئب   الفصل28

    (لايكا)غادر الألفا كريم وبعض نبلاء القطيع في مهمة اجتماع، وتركوا أمر القيادة لعدد من المحاربين والشيوخ الذين لم يكن يهمهم ما يجري في حياتي. عدت أرتدي ثوبي القديم الممزق. لم أعلم من مزّق فساتيني الجديدة، لكنني كنت أعلم أن أحدهم عاقد النية على إبقائي ألبس الخِرَق، لأن الثياب الجميلة لا تليق بي في نظرهم. لا أدري إن كان ذلك نابعًا من غيرتهم أو من حقد دفين، لكن من فعلها لا يريد لي أن أبدو جميلة، لأن جمالي يشكّل تهديدًا لهم. ولم يخطر ببالي سوى اسمٍ واحد، السيدة تيريزا.حزنت على فساتيني كما يُحزن على موت طفل، كما حزنت على نفسي منذ وفاة والدي. لم أقترب يومًا من أحد لدرجة أن أحزن عليه حين يموت، بل كنت أشعر بالارتياح أحيانًا، لأن موت أحدهم كان يعني أن عدد معذّبي قد نقص.بدأ الضعف يتسلّل إليّ مع مرور الأيام. كنت دومًا قوية في العمل، رغم أنني ضعيفة في أمور أخرى، لكن هذه الأيام بالكاد أنهي مهامي. رأت السيدة زورا أنني لا أستحق أن آكل من أطباقها وقدورها، فبدلًا من إطعامي، كانت تعطيني بعض النقود لأشتري طعامي من السوق. تعطيني عملات معدودة في الصباح وأخرى في المساء لأتناول طعامي. كنت ممتنّة لأن

  • خروف في ثياب ذئب   الفصل27

    (لايكا)كان هذا الفستان حقًا خرقة. كانت السيدة تيريزا قد رخت الحزام، وكان فيه الكثير من الثقوب التي خطتها معًا، مما جعله بلا شكل على الإطلاق، لكنه لا يزال أكثر فستان مريح لي. لا أعلم إن كان تمسكي بالفستان بسبب كونه أقدم ممتلكاتي، لكني كنت أكره أن أستغني عنه، لكن هنا، كل ما يقوله الألفا يُعتبر قانونًا.لم يقل الزوجان شيئًا لي عندما اقتربت منهما. قادني الرجل إلى خيمة داخلية حيث كانوا يُعدون وجباتهم، وأشار إلى زاوية مظلمة."لم نكن مستعدين لاستقبال شخصٍ يصبح تحت وصايتنا، ستبقين هنا حتى نجد طريقة."نظرت إلى الزاوية المظلمة. لم يكن هناك فراش، بل كانت تنتظرني فقط الأرض الباردة، لكن من أنا لأختار؟ إذا لم أبقَ مع وصي، سأموت جوعًا. رحل دون أن ينطق بكلمة. ذهبت إلى الزاوية وجلست هناك، واستمعت إلى الرجل وهو يتحدث مع زوجته."لن تبقى هنا، طالما أنا موجودة." قالت المرأة بصوت مليء بالغضب والعزم."سمعتِ كلام الألفا، أم تريدين رأسي على طبق؟""إنها ملعونة، ولدي طفلٌ ينمو بداخلي، لا أريد أن يولد طفلي وسط لعنة.""أعلم أنك لا تشعرين بالارتياح حيال هذا، أنا أيضًا لست مسرورًا، لكنك تعلمين أن الألفا كريم

  • خروف في ثياب ذئب   الفصل26

    (لايكا)استيقظت من حلم فيه الألفا خالد. أطلقت صرخة وانتفضت، لكن ذراعان عضليين احتضنتاني بسرعة وسحبا جسدي إلى حضن مطمئن. استغرقت بضع ثوانٍ لأتذكر أنني نمت في خيمة ألفا كريم. كان الحلم واقعيًا جدًا وأعاد تأجيج مخاوفي وانعدام أمني.بكيت على صدر هذا الرجل الضخم، وسمعت دقات قلبه تتسارع. تساءلت لماذا كانت دقات قلبه هكذا، هل كان خائفًا بسببي؟ رفض أن يتركني حتى هدأت. وعندما استعدت نفسي، لاحظت أنه كان مرتديًا ملابسه، وأن حقيبة قد وُضعت بالفعل بجانبه.تضاءلت روحي مرة أخرى. كان فعلًا سيتركني هنا وحيدة. لم يجلس على الفراش بينما كنت أهدأ، بل وقف وأخذ أسلحته ولبسها حول خصره كحزام. وعندما أنهى ارتداء ملابسه، مدّ يده فأمسكتها دون تردد."سآخذك إلى سيدك الجديد الآن."لم يترك يدي ونحن نسير عبر القطيع، ولم يخبرني من هو سيدي الجديد، وكنت أموت من الفضول لمعرفة من يكون. لا يزال القطيع نائمًا، وتساءلت إن كان وصيي الجديد مستيقظًا وينتظرني. وصلنا إلى خيمة في وسط القطيع، أبعد قليلًا عن خيم السيدة تيريزا والسيدة لينا. لم يرد أن أكون بالقرب منهم. نادى، فدهشت عندما كان الصوت لرجل.خرج الرجل من خيمته، كان في من

  • خروف في ثياب ذئب   الفصل25

    (لايكا)"هل لديك أحد في بالك؟" هز رأسه ودفع ملعقة أخرى من الطعام إلى فمي."أعلم أنك لا تريدنني بالقرب منك، لذا لن أزعجك، لكن يجب أن تبتعدي عن المشاكل، لأنني لن أكون دائمًا موجودًا لإنقاذك."كنت أريد أن أخبره أنني أريده بالقرب مني. لا أعلم ما أريد بالضبط، كل ما أريده هو أن أكون غير مرئية وأن أموت بسلام، ولن يهمني إذا لم يتذكرني أحد بعد موتي. لكنني كنت سألعب بمشاعره إذا فعلت ذلك، لأنني لا زلت غير واثقة جدًا من نفسي بسبب ما تعرضت له في الماضي. اتسعت عيناي عندما نظرت إلى الوعاء ورأيت أن الطعام قد شارف على الانتهاء. كيف انتهيت من مثل هذا الطعام الثقيل؟ وعندما قدم لي الملعقة التالية، هززت رأسي رفضًا."هل شبعتِ؟" أومأت برأسي رغم أنني لم أكن كذلك. لم يكن قد أكل بعد، وكنت أعلم أن المحاربين يأكلون كميات وفيرة. أكمل يسأل: "أم أنكِ تراعين أمري؟"كان ذكيًا وينتبه لتعابير وجهي. لا بد أنه تعهد بأن يولي اهتمامًا خاصًا لي بعد أن خدعته."لقد تناولت وجبةً اليوم، أنتِ لم تأكلي شيئًا، فلتأكلي." نظرت إليه فأومأ لي. فتحت فمي، ووضع الملعقة في فمي وسلّمني الوعاء. "سأذهب في رحلة".توقفت يدي، وتوقفت عن ا

More Chapters
Explore and read good novels for free
Free access to a vast number of good novels on GoodNovel app. Download the books you like and read anywhere & anytime.
Read books for free on the app
SCAN CODE TO READ ON APP
DMCA.com Protection Status