أصيب الحاضرون بالذهول، فالصورة التي ظهر بها أحمد أمامهم كانت بعيدة كل البعد عن الانطباع الذي ألفوه عنه.لم يستوعب أحد سبب إصراره على مجابهة شجرة وكأن بينهما ثأر قديم.في وسط دويّ الرعود، كانت المنشار الكهربائي في يده يطلق شرارات متطايرة.قال أحد العمال بخوف وهو يراقب المشهد: "يا أخي، انظر إلى تلك الصواعق، أخشى أن تصيب الرئيس التنفيذي أحمد مباشرة... هل تراه قد تلقى صدمة جديدة من زوجته؟"أجابه محمود ببرود: "لا أعلم إن كانت الصدمة من زوجته، لكن لا شك أن لها علاقة بها، أنا حقًا قلق على حالة الرئيس أحمد."قال خالد: "صدقت، في الماضي كان الرئيس أحمد يخفي مشاعره ببراعة، فلا أحد يستطيع التنبؤ بفرحه أو غضبه، أما الآن، وبعد الضربات المتتالية التي تلقاها، فقد أصبح توازنه النفسي هشًا للغاية، أخشى أن ينتهي به الأمر كما حدث مع السيدة سارة..."أومأ محمود بقلق: "وجود السيدة سارة إلى جانبه الآن يشبه المهدئ، لكن ما يقلقني أنه إذا غادرت حياته، فإن الخيط المشدود في داخله سينقطع تمامًا، وسيفقد السيطرة على نفسه، وعندها ستكون العواقب وخيمة."عقد خالد حاجبيه قائلًا: "لكنني أرى أن العلاج الذي خضعت له فعال، فالس
مهما حاول خالد أن يحكّ رأسه حتى يكاد يُمزّق فروته، لم يستطع أن يفهم ما الذي يجعل تلك الشجرة، السليمة الواقفة في مكانها، تستفز السيد أحمد إلى هذا الحد.هل يُعقل أنه اصطدم بها أثناء تنزهه في الشارع؟!لكن أحمد ليس من النوع الذي يسير بلا انتباه، فضلًا عن أنه ليس رجلاً يضيق صدره لأمرٍ تافهٍ كهذا.بل حتى الأطفال لا يعاندون شجرة، فكيف برجل مثله!الأمر لا يُشبه شخصيته إطلاقًا.خالد سمع عن أناس يقتلعون جذور عدوّهم من الأساس، لكنه لم يسمع من قبل عن أحدٍ يصرّ على اقتلاع شجرة وكأنها خصم لدود.عندها، جذب محمود خالد إلى طرف الطريق، وخفض صوته قائلًا: "افعل ما أُمرتَ به فقط، ألا ترى أن الرئيس التنفيذي أحمد في مزاج سيئ؟ الجميع يحاول الابتعاد عنه، وأنت بدلًا من ذلك، تتقدم بنفسك لتقف أمام فوهة البندقية!""لكنني فقط أستغرب... زوجته قد عادت إليه، وكان المفترض أن يكون سعيدًا ومبتسمًا، لا أن يخرج في منتصف الليل ليشغل نفسه بشجرة!""قلل من كلامك وأكثر من العمل.""حسنًا... فلنبدأ إذًا، أريد أن أرى إن كانت هذه الشجرة تملك فعلًا تلك القدرات الأسطورية التي يتحدثون عنها."حمل خالد المعول وبدأ بتوجيه سائق الحفّارة:
لم تُصب سارة في المحاولة الأولى، فبدا على ملامحها شيء من الخيبة.قالت بهدوء: "لا بأس، ما زال أمامي الكثير من الفرص”.ردّ أحمد باقتضاب: "نعم”.واصلت سارة المحاولة أكثر من مرة، فهي فتاة تملك قدرًا لا بأس به من القوة، ولم تكن المشكلة في ارتفاع الرمية.لكن الكرة الصغيرة إما أن تلمس الغصن ثم تنزلق، أو تمرّ بجانبه بخفة.خمس محاولات متتالية انتهت بلا إصابة واحدة.تسلل إليها خاطر ساخر: ربما لأن الله يعلم أنها لا تدعو بصدق، لذلك لا يريد منحها التوفيق.على أية حال، ما زال بيد أحمد خمس محاولات، وبالنسبة لرجل مثله، فهذا لا يعدو أن يكون أمرًا يسيرًا.ابتسمت وأشارت نحوه: "حان دورك”.ألقى أحمد أول محاولة، كانت رميته عالية، وكأنه يقصد الوصول إلى أعلى نقطة في الشجرة.القوة والزوايا كانت مثالية، لكن بشكلٍ غريب، ورغم أن الكرة الصغيرة علقت بالفعل على الغصن، إلا أنها بدأت تنزلق ببطء حتى سقطت.رأت سارة ملامحه تتصلب شيئًا فشيئًا، فسارعت إلى مواساته: "أنها مجرد صدفة، في المرة القادمة ستنجح بالتأكيد”.لكن أربع محاولات أخرى مرّت، والنتيجة لم تتغير؛ تصيب ثم تنزلق وتسقط.حتى البائع الذي يقف جانبًا بدا مذهولًا، فق
ارتبك قلب سارة فجأة، فالتفتت نحو أحمد قائلة: "ما الذي تهذي به؟”.لكن أحمد ظل يحدّق في الأفق بعينين هادئتين، وقال بصوتٍ خافت: "الموت قدر كل إنسان، وإن حدث لي في المستقبل مكروه أو مفاجأة…"قاطعتْه بسرعة وهي تعبس: "لا يوجد كل هذا القدر من المفاجآت، لا تقل مثل هذا الكلام"، كانت تشعر بضيق في صدرها، ولم ترد حتى أن تسمع كلمة "مفاجأة"، فوضعَت يدها بلا وعي على أسفل بطنها.سار الاثنان في صمت، حتى أخذها أحمد إلى أحد المراكز التجارية القريبة، وهناك تجوّلا مثل أي حبيبين عاديين؛ يتسوقان، ويتناولان الطعام، ويشاهدان فيلمًا في السينما.تلك كانت أمورًا لطالما تمنّت سارة أن تعيشها يومًا.ورغم أنها لم تعد تتذكر كل شيء بوضوح، إلا أن إحساس الاكتمال والرضا تسلّل إلى قلبها.في الليل، بدأت الثلوج تتساقط من جديد، كان أحمد يحمل بيده اليمنى أكياس التسوّق، وباليسرى يمسك يد سارة.خرجا من المركز التجاري بعد انتهاء الفيلم الذي امتدّ حتى تجاوزت الساعة التاسعة مساءً، وكان البرد قارسًا في الخارج والشارع شبه خالٍ.والسكون يلفّ المكان إلا من أنوار متلألئة علّقت على الأشجار وحول الساحة، فتنعكس على رقائق الثلج المتطايرة، فت
النتيجة كانت بعيدة تمامًا عمّا توقعته سارة، فالأشياء التي تركها لها والدها كانت بالنسبة لها كنزًا لا يُقدَّر بثمن من الناحية المعنوية، لكنها لم تكن ذات قيمة مادية تُذكر.لم يكن لما قاله رواد الإنترنت أي صلة بالحقيقة، فذلك الرجل لم يكن يسعى وراء مالها أصلًا.إذًا، ما الذي قد يرغب به منها؟قضت سارة نصف يوم في منزل عائلتها، لكنها لم تتذكر شيئًا على الإطلاق.وقبل مغادرتها، تبعتها شمس بخطواتها الهادئة، كانت سارة على وشك أن تقول إنها ستأخذ القطة معها، لكن الكلمات توقفت على طرف لسانها، وكأن صوتًا خفيًّا في أعماقها يذكّرها بأن أحمد لا يحب القطط."ما الآمر؟"قالت بهدوء: "هل يمكنني أن آخذها معي؟" وهي تشير إلى القطة بجانب قدميها.شمس كانت قد بلغت من العمر عتيًّا، ولم يتبقَّ لها الكثير لتعيشه، وأرادت سارة أن تبقى معها حتى النهاية.وافق أحمد دون تردد: "بالطبع، سأجعلهم يحضرونها لكِ، ثم نكمل موعدنا الرومانسي اليوم."ردّدت سارة كلماته في ذهنها: "موعدنا؟ الرومانسي؟"ابتسم الرجل قليلًا، وأمسك بيدها قائلًا: "وإلا ماذا؟ هل المواعدة الغرامية بعد الزواج ممنوعة؟ نحن نواعد بعضنا بشكل قانوني، فنحن زوجان أمام ا
تراجعت سارة دون وعي خطوة إلى الوراء، لكنها نسيت أنّ خلفها خزانة ملابس مفتوحة، فوجدت نفسها محصورة في مساحة أضيق. كانت يداها ترتكزان على صدر أحمد، ووجنتاها متوردتان بحرارة، بينما يملؤها الارتباك.الأسوأ من ذلك أنّها لا تستطيع أن تمسك بهاتفها لتسأل عائلتها عمّا يجب أن تفعل في هذه اللحظة.ابتسم أحمد بخفة، ومدّ إصبعه يلمس طرف أنفها برفق قائلًا: "الجو في الخارج بارد، ارتدي المزيد من الثياب."ثم تراجع خطوتين إلى الوراء، مانحًا إياها مساحة من الأمان، عندها فقط شعرت سارة وكأن نسمة هواء نقية تسللت إلى رئتيها، فأجابت بهدوء: "حسنًا."تنفست الصعداء، كانت تظن أنّه ينوي فعل أمر آخر.لكن أحمد غادر غرفة الملابس بهدوء، وقال وهو يمضي مبتعدًا: "الفطور جاهز."قالت: "حسنًا، سآتي حالًا."انتظرت حتى بردت حرارة وجهها، ثم نزلت إلى الطابق السفلي على عجل لتناول الإفطار، وبعد تناول الوجبة، خرجت برفقة أحمد.حين وقفت أمام السيارة الفارهة التي توقفت أمام المنزل، ابتلعت ريقها بدهشة: "هل هذه سيارتك؟""ما هو لي، فهو لكِ أيضًا."ركبت سارة بحذر، وما زالت مشاعر القلق تتسلل إلى قلبها، بدا لها أن الأمر لا علاقة له بالمال.أي