5 回答
سؤال مباشر يستدعي إجابة مباشرة: نعم، الجاحظ ترك نقدًا شعريًا، وإن لم يكن في شكل كتاب مستقل مفصل عن الشعر فقط. في أكثر من عمل له يناقش الأساليب الشعرية ويعرض أمثلة ويقارن بين الشعراء.
الفرق الأساسي هو أن نقده موزع في مؤلفات أدبية عامة تتناول البلاغة والبيان والحكايات الطبيعية والاجتماعية، وهذا يضفي على ملاحظاته طابعًا قصصيًا وعامًّا أكثر من كونه منهجيًا تقنيًا. لكن قيمة هذه الملاحظات لا تقل؛ فهي تعطينا لمحات عن منطق التقييم الأدبي في عصره وتأثير ذلك على النقاد اللاحقين.
ما أحب في نصوص الجاحظ أن النقد عنده ينبني على قصص وحوادث وليس على منظومة نظرية جامدة؛ هذا يجعل قراءة تعليقاتِه على الشعر ممتعة ومفيدة في آن واحد. في 'البيان والتبيين' تتبدى عنده آليات مقارنة بين فصاحة البداوة وفصاحة الحضر، ونقده لا يقتصر على الوزن والغزل بل يشمل المعنى والسياق الاجتماعي والبلاغي.
الباحثون المعاصرون يستعينون بنصوصه لاستخراج أحكام عن ذائقة القرنين الثاني والثالث الهجريين، فهو يسجل آراء معاصريه ويضيف تعليقاته الشخصية؛ لذلك كثيرًا ما نراه يرفض بيتًا ويعجب بآخر لأنهما يخدمان غرضًا بلاغيًا أفضل. ومن المهم أن نذكر أن نصوصه وصلتنا في نسخ ومخطوطات متعرجة؛ بعض المقاطع محفوظة بكاملها وبعضها ناقص، لكن الصورة العامة تبقى واضحة: الجاحظ ناقد ذو حضور قوي في النصوص الأدبية المتداخلة.
لو رسمت مشهد قراءة سريعة لكتب الجاحظ فستجد نقدًا للشعر يتناثر في السطور والقصص، أحيانًا كملاحظة لاذعة وأحيانًا كمقارنة مرحة بين بيتين. علاقته بالشعر واضحة: يحتفي بكلماتها الجريئة ويوبخ ما يراه تكرارًا لا طائل منه.
المهم أن نتفق على نقطة: ما تركه جاحظ نقديًا للشعر ليس مُعطيًا بل نموذجًا متحاورًا، أي نقدا متنقلا بين الأمثلة والسرد، وهذا ما يجعل الرجوع إليه مغامرة ممتعة للمهتمين بتاريخ الذوق الأدبي العربي. في النهاية، نصوصه تمنح القارئ أدوات للتفكير في الشعر أكثر مما تمنح قواعد جامدة للنقد.
ليس من الصعب أن أقول إن الجاحظ كان ناقدًا للشعر بقدر ما كان راويًا ومحللاً للغة والأدب، لكنه لم يكتب -على حد ما نعرفه- مؤلَّفًا منفردًا بعنوان يعنى فقط بنقد الشعر كما يقوم به نقاد لاحقون.
في نصوصه الكبرى مثل 'البيان والتبيين' و'كتاب الحيوان' و'كتاب البخلاء' تجد فصولًا ومقاطعًا مليئة بتحليل الألفاظ، ونقد الأوزان والأساليب، ومناقشات حول أصالة الأبيات ونفاذ المعنى وبلاغته. أسلوبه معروف بالمجاز والمحاكاة والقصص الجانبية، فالنقد عنده يتداخل مع السرد والأمثلة، ولا يظهر في شكل فصل منهجي واحد كما نراه في كتب النقد الحديثة.
تُرجع إليه المصادر ملاحظات على شعراء الجاهلية والإسلام المبكر، وانتقاء أمثلة لبيان مقاصد بلاغية أو لغوية، وبعض هذه المناقشات محفوظة في مخطوطات ومطبوعات وصلتنا من مصادر متعددة. لذلك يمكن القول إن جاحظًا ترك مادة نقدية مهمة للشعر العربي، لكنها موزعة في كتاباته وليست عبارة عن كتاب نقدي خالص ومجمع في نص واحد.
أحتفظ في ذهني بصورة الجاحظ كمؤرخ للغة بعيون ناقدة؛ قرأت أن لديه ملاحظات مباشرة على أساليب الشعراء وقيمتهم الأدبية، لكنه لم يختزل ذلك في كتاب بعنوان 'نقد الشعر' أو ما شابه.
ما يميز مداخلاته النقدية هو تأكيده على البلاغة والقدرة على نقل المعنى، وكان ينتقد الرتابة والكليشيهات الشعرية ويمدح الأصالة والابتكار. كان يستخدم أمثلة شعرية كثيرًا، يروي سياقها، ويسأل عن نسبتها وملاءمتها للغرض، ما يجعل نصوصه مصدرًا ثمينًا لتتبع أحوال الشعر وذوقه في تلك الحقبة. للأسف، بعض أعماله الضخمة ضاعت أو وصلتنا متفرقة مما يتركنا أمام صورة نقدية غنية لكنها موزعة وغير مجمعة.