LOGINاشتعل غضب نضال، في الحقيقة، لم يكن ينوي أن يحاسب طفلًا صغيرًا كهذا.كان ينادي فارس دائمًا بلقب المدلل الصغير، بينما أكثر الأطفال هنا مجرد يتامى بائسين بلا أب ولا أم.وكان يتعمّد استفزاز فارس مرارًا، فقط لأنه لا يشبه الآخرين، فقد مرّت أيام طويلة وهو ما زال يرفض الخضوع له.كان نضال يبحث عن فرصة ليؤدّب فارس، ويثبت قوّته أمام باقي الأطفال.لكن لم يخطر بباله أن فارس أعند مما تصوّر، لا يكتفي بعدم التراجع، بل يزداد صلابة كلما ازداد الهجوم عليه، وعيناه تتوهّجان بروح التحدي.تساءل في نفسه بغيظ، ما خطب هذا الفتى المزعج؟ كيف صار بهذا العناد؟قال بوحشية: "أيها الصغير الوقح، لقد انتهى أمرك."أشهر قبضته ملوّحًا بها، واندفع ليسددها إلى رأس فارس.صرخت سارة: "توقّف! "أغمض فارس عينيه يائسًا، فبجسده الضعيف لم يكن قادرًا على الدفاع عن نفسه.لكن في تلك اللحظة، امتدت يد قوية وأمسكت بمعصم نضال.التفت الجميع نحو القادم، فرأوا سارة تركض وقد أنهكها اللهاث.حمدت الله في سرّها، فقد وصلت أخيرًا في الوقت المناسب.ولم تعلم أن المدرب البعيد كان قد رفع بالفعل بندقية التخدير، ولو لم تصل، لكان نضال قد سقط برصاصة الآن.
كان ما يمرّ به فارس تحديًا هائلًا، فهو صغير للغاية، سواء من الناحية الجسدية أو النفسية، وكان الأمر بمثابة ضربة مدمّرة له.وبجوار الفتى الطويل النحيل، كان يقف عدد من الأطفال، يظهر أنهم يتبعونه.كان جسده هزيلًا، عظام ترقوته بارزة، والمرء يدرك بسهولة أن حياته الماضية لم تكن يسيرة، فقد بدا عليه سوء التغذية، ومع ذلك لم يكن يشبه في شيء سذاجة أقرانه في العمر.عيناه ذكّرتا سارة بملك الذئاب، قاسيتين ومهيبتين.قال أحمد: "هذا الطفل يُدعى نضال لا تنخدعي بصغر سنه، لقد عُثر عليه يتيمًا في ساحة المعركة الشمالية، كان يعيش على التهام الجثث، بل وكان يتقاتل مع النسور الجارحة على الطعام."ارتجفت سارة من الاشمئزاز وقالت: "هو... يأكل لحم البشر!"أجاب أحمد ببرود: "الأصح أنه كان يأكل الجيف، فالإنسان إذا أراد النجاة قد يبتلع الطين العفن، وقد اختار لنفسه اسم نضال، إذ لم يكن له أب ولا أم، وحين وُجد كان على شفا الموت، منهك الجسد، مصابًا بأمراض شتى، وما إن استعاد عافيته حتى أُرسل إلى هنا ليتدرّب، وهو الآن زعيم الأطفال بينهم، أتدرين لماذا يضايق فارس؟"قالت سارة: "لأنه يريد أن يكون الذئب القائد، وفارس لا يخضع له، أل
فتحت سارة الباب على عجل محاولة النزول، غير أنّ أحمد أمسك بيدها.قال وهو يضغط نبرته: "سارة حبيبتي، ما دام قد سُلِّم للمدرّب، فلا تتدخلي في سير تدريبه، فالقوانين هنا هي الأساس، إن أردتِ رؤيته، فعليك الانتظار حتى يُتمّ كل مشاريعه المطلوبة."التصقت سارة بالزجاج تحدّق، فرأت رجلًا طويل القامة يتقدّم نحو فارس، يمدّ يده كأنه يسأله عن حاله، أيريد أن يستريح قليلًا؟فهو في النهاية ذو مكانة مميزة، والمدرّب لا بدّ أن يراعيه بعض الشيء.لكن فارس رفض يد المدرّب الممدودة: "أنا... أستطيع النهوض بمفردي."كانت يداه الصغيرتان تغوصان في الثلج، يسند جسده شيئًا فشيئًا حتى نهض ببطء.ذلك الجسد الصغير بدا وكأنه يفيض بقوة لا حدّ لها.نهض مرة أخرى وبدأ يركض رويدًا نحو الأمام، يجاهد ليلحق بالفريق الكبير.لم تكن سارة تعلم بما كان يفكّر فيه، غير أن ذلك الجسد الضئيل أصرّ على النهوض فورًا، حتى لو لم يلحق بهم، واصل العدوّ... خطوة، خطوتين...كانت سارة تشعر في الأساس بذنب كبير تجاه هذا الطفل، فانحدرت دموعها ببطء على وجنتيها.فهي لا تعرف كيف كانت حياة أحمد، لكنها في نظرها ترى أن فارس ليس سوى طفل صغير.وحين أنهى جريه، كان ب
كان الطبيب عصمت دائمًا لسانه قاسٍ لكن قلبه طيب.قال: "أتدري كم وبّخني الطبيب بدر؟ ظل يلاحقني فترةً طويلة حتى توقف، ولولا أنني أخبرته بأنك تنوي إعادة الفتاة إليه، لكان أنهى أمري في الحال."قال أحمد: "أشكر عمي عصمت على وساطته."لوّح الطبيب عصمت بيده قائلًا: "دعك من تلك المجاملات، لو لم أرَ في هذه الفتاة موهبة لما قبلت مساعدتها، أما إن كانت عديمة الفائدة لما ضيعت وقتي عليها، لكن أخبرني، هل تنوي حقًا أن تتركها وشأنها؟ لا تعُد إلى لعبتك القديمة؛ تُمسك بها يومًا وتندم في اليوم التالي، فأنا كبرت في السن ولا طاقة لي بلهوكم."قال أحمد: "اطمئن يا عمي، ما حدث في الماضي كان لجهلي، كنت أظن أن منعي لها عن أحلامها هو حمايتها، أما الآن فقد أدركت أن الحب لا يعني أن أقص جناحيها، بل أن أتركها تحلّق."قال الطبيب عصمت: "لو كنت تملك هذا الوعي من قبل، ما كنت وصلت إلى ما أنت عليه اليوم، لكن لا بأس، لم يفت الأوان، فالاعتراف بالخطأ وتصحيحه فضيلة، وما زال المستقبل أمامك."ثم مدّ يده وربّت على كتفه قائلًا: "سمعت أن هويتك قد كُشفت، عليك أن تكون أكثر حذرًا فيما بعد."قال أحمد: "أتفهم ذلك."قال الطبيب عصمت: "انصرف ا
ما إن أنهى الطبيب كلامه حتى انهمرت دموع سارة.ما زالت حتى الآن تتذكر ذلك اليوم، حينما قدّمت طلب الانسحاب من الجامعة، فاندفع أستاذها خارج غرفة العمليات بعد أن أنهى جراحة معقّدة، ولم يخلع حتى ثوب العمليات، بل حمل بيده مشرطًا وركض إلى الجامعة.في البداية ظنّ أنّ كارثة قد وقعت، هل تدهورت أحوال عائلتها؟ أم أنّ أحدًا يهددها؟عرض عليها إن كانت بحاجة إلى المال أن يقدّم لها منحة دراسية كاملة، بل وأن يسمح لها بالوقوف إلى جانبه في غرفة العمليات، وإن كان أهلها يريدون إجبارها على ترك الطب لتتولّى أعمال العائلة، فإنه سيتفاوض مع السيد رشيد بنفسه.ذلك اليوم جاء وهو يلهث، وقطرات العرق تتصبب من جبينه، وقال لها بصوت متقطع: "يا ابنتي، لا تكوني طائشة، أمامكِ مستقبل عظيم، إن كان لديكِ أي صعوبة فأخبري أستاذكِ، وسأحاول بكل جهدي أن أذللها لكِ، أليس كذلك؟"وحين صارحته سارة بأنها قررت ترك كل شيء فقط من أجل الزواج، كاد نظّارته تسقط من شدة الدهشة، بل وظنّ أنه أساء السمع بسبب طول العملية.قال مذهولًا: "أأنتِ واقعة تحت سحر رجل ما؟! كيف أمكنكِ أن تتفوهي بمثل هذه الكلمات؟!"كان ردّ فعل كل من علم بقرارها مماثلًا لردّة
كلما أراد أحمد أن يُبطئ الوقت، كلما تسارع مروره أكثر.في الليلة السادسة، ظل أحمد يحتضن سارة طويلًا دون أن يغمض له جفن.كانت سارة تعرف ما يشغل باله، لكنها لم تقل كلمة واحدة.الحياة ما هي إلا لقاءٌ وافتراق، سقوطٌ ونهوض، مرارًا وتكرارًا، حتى تنضج الروح وتكبر.لا أحد يبقى في مكانه إلى الأبد.مع بزوغ الفجر، وبعدما أعدّت سارة الإفطار لأحمد، ظهر فجأة خالد ومحمود عند الباب بعد غياب طويل.كان الاثنان قد هزلا كثيرًا، وتحت عيونهما هالات سوداء واضحة، مما دلّ على كثرة انشغالهما في الأيام الماضية.قالا بصوت واحد: "سيدتي".سألت سارة بدهشة: "ألم يكن موعد المغادرة غدًا؟"أجاب أحدهما: "السيد طلب أن نحضر، فحالته تتحسّن بسرعة، ويريد الخروج من المستشفى مبكرًا، وقد أنهينا كل الإجراءات".التفتت سارة نحو أحمد، كان يرتدي بدلة رسمية كما اعتاد، ولا يبدو عليه أثر الجراح.كانت الجروح السطحية على جسده قد التأمت، ولم يتبق سوى ثلاث ندوب عميقة تحتاج وقتًا لتشفى، وهو ما يتطلّب راحة طويلة.لكن بالنسبة لأحمد فهذا يكفي، فهذه الأيام القليلة كانت بمثابة راحة نادرة انتزعها من انشغاله.قال: "هيا، سأرافقكِ اليوم".لم تفهم سارة







