Masukعادت نيّرة في عطلة نهاية الأسبوع إلى مدينة الزهور مع ابنتها سوسو.وكان عيد ميلاد السيدة شكرية يوافق يوم السبت.في العام الماضي، ارتفع ضغط السيدة شكرية فجأة فأغمي عليها ودخلت المستشفى؛ لذلك أصبحت شديدة الحرص على نظامها الغذائي، أما وجبة الغداء فيُحضّرها طاهٍ خاص أرسله لها خالد ويكون عبارة عن أطباق صحية خفيفة.خلال السنوات الثلاث الماضية حقّق مشروع خالد البحثي بعض التقدّم.لكن الشيء الوحيد الذي لا يعجب السيدة شكرية في حياته هو أنّه ارتبط بفتاة ثم انفصلا بعد فترةٍ قصيرة.تركت نيّرة ابنتها في منزل عائلة شاهر في فترة ما بعد الظهر، ثم قادت سيارتها إلى معبد السكينة الواقع في قرية الندى.كانت تزوره مرّة كل عام، وفي كل عام كانت تجد فيه تغيّرًا جديدًا.ذاع صيت المعبد على الإنترنت بفضل دقة الرهبان في تفسير أوراق الحظ والطالع.بل إنّ البعض يزعم أنّ الراهب الأكبر هناك هو كبير رهبان البلاد، يعيش بينهم متخفّيًا، مما جعل عدد الزائرين يتزايد عامًا بعد عامكما التحق بالمعبد الكثير من الرهبان الصغار ولم يعد المكان خاليًا أو هادئًا كما كان.عرفها أحد الرهبان الصغار فتقدم نحوها وقال: "اليوم المعلّم زاهد يل
قال باهر بصوتٍ مبحوح كأن الكلمات تُنتزع من أعماق صدره: "لن يزعجكِ مؤمن بعد اليوم."لقد أساء تقدير الغيرة التي تشتعل بداخله تجاه نيّرة؛ فهو لم يستطع تقبل مؤمن صاحب السلوك الفاسد والأخلاق المنحلة، أو محسن الذي اختاره بنفسه بعناية لما به من مميزات.فمجرد تخيّله لنيّرة وهي تقترب من أيّ رجل منهم يفقده اتزانه.دفعت نيرة يده بعيدًا.واتكأت على باب المنزل بينما ضوء شقتها المنبعث من خلفها ينير ظهرها.كانت عيناها صافيتين وباردتين تحدقان فيه بفتور وعدم اكتراث لأي مما يقوله.وفي تلك اللحظة، انطفأ مصباح الممرّ الخارجي؛ لم يكن ثمة حركة تُفعِّل الإضاءة الأوتوماتيكية فغرق الممرّ في الظلام.وقف باهر في العتمة وجسده النحيل ملفوف بثياب نوم سوداء وكأنه يذوب مع الظلام من حوله، بدا مثل روحٍ تائهة، لا يضيئه إلا شيء من نور شقتها المتسلل من خلفها. قطعت نيّرة الصمت من حولهما وقالت: "من يزعجني ليس مؤمن ولا محسن بل أنت من تزعجني، أنا أسكن هنا منذ عامٍ كامل في مجمّع الشروق المطِلّ على البحر، وأحب هذا المكان، وبنيت فيه حياة مستقرة طوال السنة الماضية.""باهر… إمّا أن ترحل أنت، أو أرحل أنا."كانت نبرة نيّرة هادئة وخ
قال محسن وهو متلهف لتعميق العلاقة بينهما قليلاً: "هل يمكنني مناداتك بأختي يا سيدة نيّرة؟"نظرت نيّرة إلى الشخص الذي قدم لها شريحة اللحم المقطّعة بعناية وقالت: "حسنًا، وماذا عليّ أن أناديك؟""يمكنك مناداتي محسن فقط.""ما رأيك يا أختي أن نذهب لمشاهدة فيلم بعد قليل؟"في تلك الليلة، كان المطر يهطل بغزارة.حمل محسن المظلة ليغطي رأس نيّرة وخرج الاثنان من المطعم معًا، وفي ضباب المطر الخفيف، رأى باهر محسن وهو يفتح باب السيارة ويقوم بربط حزام الأمان لنيّرة بعناية.نزل باهر من على الدرج في هذا الطقس الرطب والممطر، وكانت ساقه اليسرى مشدودة وكأنها قطعة خشبية متصلبة تؤلمه مع كل خطوة.بدا وجهه شاحبًا وهو يراقب سيارة محسن وهي تبتعد.كان كرم يحمل المظلة والمسافة بينهما وبين موقف السيارات لا تتعدى خطواتٍ قليلة.فالجراج الخاص بمطعم الصفوة فوق الأرض بجانب المطعم.وفي هذا الطقس الماطر والمتواصل بدا جسد باهر الذي اعتاد أن يبدو متعجرفًا ومترفًا، ضعيفًا ومتألمًا، فقد كان يمشي بساقٍ متصلبة قليلاً مع عرج طفيف.أخذ كرم دواءً مسكّنًا للألم من صندوق الإسعافات الموجود في السيارة وأعطاه لباهر وهو يراقب حالته، فقد أ
تلاشى صوت تكسير الزجاج وسط أنغام الكمان العذبة التي تملأ المطعم.ارتجف قلب كرم من الفزع ونظر إلى قطرات الدم التي تتساقط على الأرض، ثم أسرع ليفحص إصابة باهر.تجمّد وجه باهر وقال بغضب: "قل لمحسن أن يرحل من هنا فورًا!"قال كرم: "حاضر."وفي داخله كان يتمتم: "هو نفسه الذي رتّب لقاء محسن مع السيدة نيّرة، والآن يطرده.""هذا أول لقاء ولم يحتمله؟" "وأساسًا الأمر ليس سوى سوء فهم بسبب زاوية جلوس خاطئة."حدّق محسن في ملامح وجه نيّرة ثم صمت لحظة قبل أن يقول: "لقد قدم لي عروضًا لا يستطيع أيّ شخصٍ عادي رفضها." "وهل من مثلك يُعتبروا أشخاصًا عاديين؟"أجاب محسن بعد أن عدَّل جلسته: "من مثلي لا شيء في مواجهة المال والسلطة المطلقة، أنا لا شيء أمام عائلة الدالي، ولو اخترتِني لأكون حبيبك، سأساعدكِ أنت والسيد باهر على إخفاء أي علاقة مستقبلية بينكما."حدّقت فيه نيّرة وكأنها تفكر.كان هذا الشاب الوسيم صاحب النسب والتعليم الرفيع، يحمل صدقًا غريبًا في نظراته وكأنه حقًا ينتظر أن تنتقيه من بين الآخرين. سألته: "وما رأيك؟ من أنا بالنسبة للسيد باهر؟"لم يُجِب.غيَّر الموضوع واختار كلماته بحذر وقال: "لديّ هواية صغير
لم تغادر شهيرة ووقفت إلى جانبها واقتربت من الهاتف لتصغي إلى ما سيُقال."هل لديكِ وقت هذا المساء يا سيدة نيّرة؟ هل تقبلين دعوتي لتناول العشاء؟"عقدت نيّرة حاجبيها قليلًا، وألقت نظرة على ساعتها.وقبل أن تنطق بشيء، اقتربت شهيرة من سماعة الهاتف وقالت: لديها وقت طبعًا يا أخي، لنتقابل الليلة في مطعم الصفوة، حسنًا؟أنهت شهيرة المكالمة ثم مشت إلى خلف نيّرة ووضعت يديها بخفّة على كتفيها النحيلتين وهي تقول: "الليلة ستذهبين لمقابلة هذا الشاب، ثم إن مطعم الصفوة ملك لمجموعة الدالي، لا تضيعي مجهودات السيد باهر العظيمة التي بذلها لأجلكِ."آخر كلماتها خرجت بنبرة ساخرة مليئة بالغمز.في تلك الليلة التقت نيّرة بمحسن وما إن وصلا إلى مطعم الصفوةحتى دخل باهر الدالي من الباب الآخر.كانت مائدة العشاء في المطعم ذلك اليوم ثقيلة الأجواء، حتى كرم لم يجرؤ يومها على النظر إلى وجه باهر، فقد كان وجهه يتقلب بين السواد والزُرقة وأصابعه المقبوضة تُحدث طقطقة مسموعة من شدة ضغطه عليها.تُرى ما الشعور الذي يعتري المرء حين يدفع بيده المرأة التي يحبها إلى رجلٍ آخر؟تمنّى كرم لو يستطيع الآن إجراء مقابلة مع السيد باهر ليسأله عن
حين وصلت نيّرة إلى باب المطعم، وبينما كانت تستعد لطلب سيارة أجرة، اكتشفت أنها نسيت حقيبتها.استدارت، فرأت في عتمة الليل ظلّ الرجل الطويل الهادئ الملامح، باهر. كانت سيارة باهر واقفة عند المدخل وكرم بجانبه يفتح له الباب، وحين انحنى ليدخل السيارة، انزلقت من تحت ذراعه سلسلةُ حقيبةٍ تلمع ببريق خافت في ظلام الليل.إنها حقيبتُها.في الواقع، كانت حقيبة نيّرة لا تحوي الكثير، فهاتفها كان في يدها، وما تبقى بداخله مجرد مسحوق تجميل وأحمر شفاه وأشياء بسيطة.بعد عودتها إلى المنزل، استقبلتها سوسو بفرحٍ طفولي وقالت: "ماما، لقد سمعت صوت نيمو اليوم، أهو يسكن في الشقة المقابلة لشقتنا؟ … أهذا يعني أن عمي باهر يسكن بجوارنا أيضًا؟""عندما عدت من المدرسة، سمعت صوت نباح كلب الجيران، كان صوته يشبه صوت نيمو تمامًا! ناديته من وراء الباب، وردّ عليّ، حتى توتو عرف صوته."نظرت نيّرة إلى كلبها الممدّد على الأريكة، بطريقته الغبية المحببة.هل يمكن للكلاب فعلًا تمييز بعضها بالصوت؟كانت قد انتقلت إلى هنا منذ عام ولم يسكن أحدٌ في الشقة المقابلة طوال تلك الفترة، لذا اكتفت بهز رأسها وتأكيد أن نيمو يسكن هناك بالفعل."”حسنًا…







