LOGINكانت قسوة الفقد عليه أشدّ، لأن أحدًا لم يتوقّع ما حدث. لم يتنبأ بها أحد. في لحظةٍ كانت بخير، وفي اللحظة التالية... اختفت. لم يُتح له الوقت ليستعدّ، ولا ليستوعب مرضها أو رحيلها. أشكّ في أنه قبِل فكرة الموت أصلًا.قال وهو يبتعد عني قليلًا، وكأنّ ملامح طبعه المعتاد بدأت تعود إليه، "لم تخبريني بعد... لماذا أنتِ هنا؟"لا أدري كم مرّ من الوقت، لكن الأمر لم يكن يعني لي شيئًا. بدا أكثر تماسكًا الآن، وإن ظلّ الحزن يقطن عينيه الرماديتين. ومع ذلك، كان أفضل حالًا، كأن شيئًا من الثقل الذي كان يسحقه قد انزاح أخيرًا.تخدّرت ساقاي من طول الجلوس على ركبتيّ، فدفعتُ الزجاجات المتناثرة جانبًا وجلستُ إلى جواره.قلتُ بهدوء، "أمّك كانت قلقة عليك."أطلق ضحكة قصيرة ساخرة، "فأرسلتك أنتِ؟""أجل.""من بين الجميع؟" رفع حاجبيه بدهشةٍ صادقة، كأنه لا يصدق أن والدته اختارتني أنا تحديدًا.ابتسمتُ بخفةٍ مريرة، "صدّقني، لقد سألتُ السؤال ذاته."ساد بيننا صمتٌ طويل، ولم أستغرب ذلك؛ إذ نادرًا ما كان بيني وبينه تواصلٌ حقيقي. وهذا لم يكن غريبًا، فلم يكن بيننا يومًا ما يُقال.ثم، على نحوٍ غير متوقّع، أخرج لفافةً من جيبه، أشعله
تقدّمتُ بخطواتٍ بطيئة نحو نوح. لم أكن بحاجه إلى أن يخبرني أحدٌ أنّه هو؛ فحتى بعد مرور ستّ سنوات، ما زلتُ قادرةً على تمييزه من بين ملايين البشر.كنتُ أشعر وكأنّ قلبي عالقٌ في حلقي، وأنّ هناك من يعتصر رئتيّ ويسرق الهواء الذي أحاول جاهدًة إدخاله إليهما. قبضتُ على كفّيّ في محاولةٍ لوقف ارتجافهما، لكن دون جدوى.كان شعره الأسود تمامًا كما أتذكّره، لكن ما تغيّر هو هيئته. كتفاه أعرض، وبنيته أكثر صلابة، وجسده بدا أكبر وأكثر وقارًا. بالطبع، آخر مرة رأيتُه فيها كان في العشرين، أمّا الآن فهو في السادسة والعشرين. لم يكن منطقيًا أن أتوقّع أن يبقى على حاله.تابعتُ تقدّمي ببطءٍ شديد، وقدماي تثقلان كأنهما مصبوبتان من رصاص. داعب النسيم وجهي كأنّه يهمس بأسرارٍ لا أستطيع فهمها. اختفى البرد سريعًا، تاركًا خلفه حرارةً مزعجة جعلتني أشعر بالضيق في جلدي.وأخيرًا، بعد ما بدا وكأنه دهرٌ بأكمله، وصلتُ إلى حيث يجلس.وقفتُ خلفه، أتنفّس بعمقٍ محاوِلةً تهدئة نفسي، أفكّر بما عليّ قوله. كنتُ منهمكةً طوال الوقت في فكرة العثور عليه، ولم أفكّر إطلاقًا في ما سيحدث بعد ذلك. وها أنا الآن، واقفةٌ خلفه صامتة، كأنني واقفة خلفه
كلّما انتهيتُ من هذا الأمر بسرعة، كان أفضل.مواء بلاكي الخافت اخترق الصمت من الجهة الأخرى من الغرفة.قلتُ مبتسمة، "أعدكِ أنني لن أتأخّر"، ثم رفعتها بين ذراعيّ، أضمّها إلى صدري وكأنني أبحث في دفئها عن بعض القوة والشجاعة.هي بدورها أطلقت خرخرةً ناعمة، تردّ إليّ شيئًا من السكينة التي كنتُ أفتقدها. وضعتُها برفقٍ على الأرض، وتأكدتُ من وجود الطعام والماء أمامها، قبل أن ألتقط مفاتيحي وأغادر.بمجرّد أن خرجتُ، أسرعتُ إلى السيارة وأغلقتُ الأبواب بإحكام. صحيحٌ أنّ الحيّ آمن، لكن لا ضرر أبدًا من مزيدٍ من الحذر.لمّا أدرتُ المحرّك، أدركتُ فجأةً أنني لم أفكّر في الأمر مليًّا. جلستُ مكاني أستمع إلى هدير المحرّك يعلو تحت يدي، دون أن أتحرّك. ليس لديّ أي فكرة عمّا سأفعله، ولا أملك أي دليلٍ يرشدني.قد يكون نوح في أيّ مكان. ما الذي كنتُ أفكّر فيه حقًا؟عمّتي آفا تعتقد أنّني أفضل فرصها في العثور عليه، لكن ربما كانت مخطئة. صحيحٌ أنّني كنتُ مولعةً به في صغري، وما زلتُ أشعر بالحرج حين أتذكّر ذلك، لكن مرّت ستّ سنوات، وربما لم أعد أعرفه كما كنتُ أظنّ أنني أعرفه.حاولتُ أن أستحضر في ذهني مكانًا قد يذهب إليه، لكن
جلستُ في سكون غرفتي بعد أن أنهيتُ المكالمة مع العمة آفا.تسلّلت تنهيدة مُجهَدة من بين شفتيَّ وأنا أسند ظهري على اللوح الأمامي للسرير، فيما بدأ ثقل طلبها يستقر على صدري كالجبال ما الذي ورّطتُ نفسي فيه بحقّ السماء؟كنتُ أعني كلمتي حين قلتُ إنني على استعداد لفعل أي شيءٍ من أجل عمتي آفا، وكنتُ صادقة في وعدي. لكن هذا الأمر مختلف… مختلف بطريقةٍ تخيفني.كأنني على وشك فتح صندوقٍ مليء بالمشكلات.تاريخي مع نوح ليس من ذلك النوع الذي يثير البهجة عند استعادته. لا، إنّه تاريخٌ حافل بالمشاعر المضطربة والجراح الصامتة.ولأسبابٍ لا يعلمها سواه، كان يكرهني دائمًا.منذ اللحظة الأولى التي التقينا فيها، بدا كأنّ شيئًا في داخله قرّر أنّني العدو.جربتُ كلّ شيءٍ لأجعله يحبّني، يا إلهي كم جاهدتُ!كنتُ أركض وراء رضاه كمن يبحث عن ضوءٍ في آخر نفقٍ مظلم، أتلهّف إلى لمحةِ لطف، فلا أجد سوى قسوةٍ تحطّمني وتتركني أبكي.مهما فعلت، ومهما حاولت أن أكون لطيفةً أو محبوبة، لم يُجْدِ ذلك نفعًا.كان دائمًا يجد ما يؤذيني به… كلمة جارحة، نظرة ازدراء، أو سخرية تُطفئ فيّ أي بريقٍ من أمل.وكنتُ دائمًا ينتهي بي الأمر باكيةً، ألوم ن
تمتمتُ بارتباكٍ، "أظنّ أنني لم أفهمك جيدًا."خرج صوتي هشًّا بالكاد يُسمع، وكأن صوتي نسي كيف يُشكِّل الكلمات. لا بدّ أنّ هناك خطأ ما… ربما أسأتُ الفهم.تنهدت آفا بتعبٍ واضح، وقالت بهدوءٍ كئيب، "لم تُخطئي السمع."سكنت الغرفة، لكن الصمت كان أثقل من أي ضجيج.قلبي يخفق بعنف، ويداَي ترتجفان. كلّ الدفء الذي أحاط بي قبل لحظاتٍ تلاشى، وحلّ محلَّه بَردٌ يزحف إلى نُخاعي.تمتمتُ بذهولٍ، "نوح؟ تريدين أن أبحث عن نوح؟"أجابتْ بتنهيدةٍ مرهقةٍ، "نعم."ابتلعتُ الغصّة التي تجمّعت في حلقي، وقلتُ بصوتٍ مرتجفٍ، "عمّتي آفا، أنا آخرُ شخصٍ في العالم قد تطلبين منه هذا."كنتُ عاجزةً عن فهم السبب الذي جعلها تلجأ إليّ أنا بالذات.أخذتُ نفسًا عميقًا في محاولةٍ لتهدئة نفسي.ما طلبتْهُ يفوق قدرتي… أعلم أنّني قلتُ إنني مستعدةٌ لفعل أيّ شيءٍ من أجلها، إلا هذا.نوحُ آخرُ شخصٍ أريدُ التعاملَ معه.قالتْ متوسّلةً، وصوتُها يتهدّجُ بالحزن، "أرجوكِ يا سيرا… عمّكِ وأنا لم نتمكّن من العثور عليه."مرّت سنوات، لكنَّه في نظرها ما يزالُ نوحٌ طفلَها الصغير، ذاك الفتى الذي واجه عائلتَها حين ظلموها.تردّدتُ، ثم قلتُ ببطءٍ، "عمّتي… ماذ
سيرا.أيقظني رنين الهاتف من نومي. تنهّدتُ محاوِلةً تجاهله، ثم غصتُ أعمق في دفء أغطية فراشي. كنتُ مرهقة، وآخر ما أرغب فيه في هذه الساعة المتأخرة مكالمةٌ تُفسد عليّ راحتي.أيًّا كان المتصل، يمكنه الانتظار.توقّف الرنين أخيرًا، فزفرتُ بارتياح. سحبتُ قطّتي نحوي واحتضنتُها، أدفئ وجهي بفرائها الناعم. كنتُ على وشك أن أغفو من جديد، حين دوّى ذلك الرنين اللعين مرّةً أخرى.تحسّستُ الهاتف على الطاولة الجانبية بلا تركيز، فأطحتُ بزجاجة الماء بدون قصد. كان عليّ أن أُغلق الهاتف كما أفعل دائمًا.أنا عالمةُ أحياءٍ؛ لذا يمكنك أن تتخيّل عدد الساعات الطويلة التي أقضيها في المختبر والأبحاث. وحين أجد فرصةً للراحة، أتشبّث بها كما لو كانت كنزًا ثمينًا.ظننتُ أن المتصل أحد زملائي، فمرّرت إصبعي على الشاشة وأجبتُ متذمّرة، "أتمنّى أن يكون الأمر مهمًّا.""سي؟ هل أنتِ مستيقظة؟" جاءني صوتها الحنون المألوف يخترق ضباب النعاس.تجمّد جسدي. ذلك الصوت… أعرفه كما أعرف لحن أغنيتي المفضّلة. زال النعاس عني على الفور، وجلستُ منتصبة."مرحبًا، يا عمّتي آفا"، أجبتُ بخجلٍ، والحرارة تصعد إلى وجهي لشعوري بالذنب من نبرتي الجافة.مواء






