LOGINحثّتني ليلي على الحديث بنبرةٍ لطيفة، "تحدّثي معي، يا سي."ابتلعتُ ريقي بصعوبة. لا يمكنني أن أخبرها. هذا عبئي وحدي، وخزيي أنا، وحملي الثقيل. سيُدفَن معي إلى الأبد. لا يجب أن يعرف أحد كم أخطأتُ بحق نفسي."لا شيء"، كذبتُ وأنا أمسح دموعي. "إنه... أحد تلك الأيام السيئة فحسب."كان الصمت الذي أعقب كلامي طويلًا جدًا. للحظة، ظننتُ أنها أغلقت الخط، ثم تحدّثتْ مجددًا، بهدوءٍ وحذر، "تعلمين... لقد تحدّثتُ منذ قليل مع عمّتي آفا."توقّف قلبي عن النبض لوهلة.قلتُ بجمود، "لقد أخبرتكِ، أليس كذلك؟""قالت إنّها طلبت منكِ أن تبحثي عن نوح الليلة الماضية حين لم تستطع الوصول إليه، وإنكِ أرسلتِ لها رسالة بعد ذلك تؤكّدين أنكِ وجدته، وأنه بخير."تبا.تلعثمتُ بحثًا عن الكلمات. "آه... نعم، وجدته، لكن الأمور... لم تَسرِ على ما يُرام بالنسبة لي."سألت بسرعة، بنبرةٍ يغلي فيها الغضب، "ماذا حدث؟ أقسم أنّي سأُخصيه لو قال لكِ شيئًا جارحًا!"وهي تعني ما تقول. لم تكن تلك المرة الأولى التي تقف فيها ليلي في وجه ابن عمّها من أجلي.أتذكّر عندما كنتُ في الثالثة عشرة، وكيف أنها لم تحدّث نوح أسابيع كاملة بعدما أهانني أمام الصف بأ
وصلتُ إلى موقف السيارات وأنا أتحرّك كظلٍّ خافت، تتنقّل عيناي في كلّ اتجاهٍ تبحثان عن أيّ أثرٍ للمصوّرين المتربّصين.حاشا لله أن يحدث ذلك، لكنّ آخر ما أريده هو أن تُلتقط لي صورة وأنا أغادر الفندق ذاته الذي خرج منه نوح.فهو نوح وودز، ابن رووان وآفا وودز، الثنائي الأشهر، العائلة الملكية التي تحكم هذه المدينة بلا منازع. المصوّرون يلاحقونهم دومًا، وكانوا يتعقّبون كلّ حركةٍ لابنهما الأكبر باهتمامٍ مفرط.كانت عمّتي آفا وعمّي رووان يعرفانني منذ أن عرف نوح طفولته. أحبّاني دائمًا، وأنا أُبادلهما الحب.ولا أظنّ أنّهما سيغضبان لو حدث أمرٌ ما بيني وبين نوح؛ فقد كانا يعلمان منذ صغري ما كنتُ أشعر به نحوه.ومع ذلك... لو انكشف الأمر، فستكون كارثة.ليس بسببهما، بل بسبب ما سيعنيه ذلك لي وله معًا.فرغم أننا نمنا معًا، إلا أن نوح لا يحمل لي أيّ مشاعر.الليلة الماضية لم تعنِ له شيئًا. كان وحيدًا، أراد فقط إشباع رغبةٍ عابرة، وكنتُ أنا... المتاحة.وآخر ما أريده الآن أن يضغط والداه عليه للمضيّ قدمًا ويُجبراه على الارتباط بي.أنا أعرفهما جيدًا، وأعلم أنّ هذا ما سيحدث لو انكشف ما وقع.سيظنّان أنّ بيننا شيئًا حقي
كيف سمحتُ لهذا أن يحدث؟ لم يكن من المفترض أن يحدث أيٌّ من هذا. كوني تحت تأثير المخدر ليس عذرًا.انزلقت عيناي نحو جسد نوح النائم. كان مستلقيًا على ظهره، ذراعه تغطي عينيه، والغطاء متدلٍّ حتى خصره.اندفعت موجة جديدة من المشاهد إلى عقلي، مشاهدُ لديَّ شعورٌ بأنها ستُحفر في ذاكرتي ما حييت.تسمّرتُ في مكاني، والرعب يشلّني تمامًا. انفجرت الدموع في عينيّ بينما سقط ثقل ما حدث بيننا على صدري كصخرةٍ تسحقني.تسارع تنفّسي فيما سيلٌ من الخزي يغمر صدري.لقد نمتُ مع نوح وودز.لقد نمتُ مع زوج كلوي.ظلت تلك الكلمات تتردد في رأسي كصدى أبديّ لا يخبو، يطرق أعصابي بلا رحمة."تبا... تبا... تبا!"، تمتمتُ وأنا أختنق بالذنب والاشمئزاز من نفسي.ارتفع نَشيج من حلقي، لكني ابتلعته. كان عليّ أن أخرج من هنا. أن أرحل قبل أن يستيقظ وفات الأوان."ما الذي يحدث بحق الجحيم؟" جاء صوته أجشًّا حادًّا، يخترق الصمت كحدّ شفرةٍ حادة.تجمّدتُ في مكاني.مرّت لحظة قبل أن يدوّي صوته الغاضب، "ما الذي تفعلينه هنا بحق الجحيم، يا سيرا؟"استدرتُ ببطءٍ نحوه، ونظرة عينيه كادت تطيح بأنفاسي. اشمئزازٌ صافٍ لا شائبة فيه.لم أنطق بكلمةٍ واحدة. كن
سحبتُ ذراعي من يده وتراجعتُ خطوةً إلى الوراء.خرجت كلماتي ببطءٍ ثقيل، "لقد وعدتُ العمة آفا بأن أجدك، وقد فعلتُ. والآن سأعود إلى المنزل."لم أمنحه فرصةً للرد، بل استدرتُ مبتعدةً عنه، خطواتي بطيئةٌ ومترنّحة، لكنني واصلتُ السير.كان الهواء مشبعًا بخطرٍ خفي… ذلك النوع الذي يسبق تغيّرًا لا يمكن التراجع عنه.تعثّرتُ في طريقي نحو السيارة، ورغبةُ الرحيل تدفعني إلى الأمام. كنتُ أعلم أنني لستُ بكامل وعيي، لكنّ البقاء لم يكن خيارًا آمنًا. سأقود السيارة ببطءٍ شديدٍ إذا كان هذا هو الثمن لأضمن وصولي إلى المنزل بسلام.شعرتُ بالارتياح حين وصلتُ أخيرًا إلى السيارة، غير أنّ يديّ المرتجفتين لم تسعفاني على إخراج المفاتيح من جيبي. عندها شعرتُ بوجوده خلفي، بحرارة جسده لفحت ظهري وألهبت الهواء بيننا.تصلّبتُ، واستقام ظهري كالرمح. وقبل أن أستطيع الحركة، استدار بي بعنفٍ وثبّتني على هيكل السيارة.قال متوسّلًا، وعيناه الرماديتان العاصفتان تشدّانني إلى مكاني، "أرجوكِ."تلك العيون أسرَتني، جذبتني إلى أعماقها حتى كدتُ أغرق فيها. ولبرهةٍ خاطفة، نسيتُ كلّ الأسباب التي جعلتني أفكّر في الرحيل... أن أقول لا.اقترب خطوةً،
كانت قسوة الفقد عليه أشدّ، لأن أحدًا لم يتوقّع ما حدث. لم يتنبأ بها أحد. في لحظةٍ كانت بخير، وفي اللحظة التالية... اختفت. لم يُتح له الوقت ليستعدّ، ولا ليستوعب مرضها أو رحيلها. أشكّ في أنه قبِل فكرة الموت أصلًا.قال وهو يبتعد عني قليلًا، وكأنّ ملامح طبعه المعتاد بدأت تعود إليه، "لم تخبريني بعد... لماذا أنتِ هنا؟"لا أدري كم مرّ من الوقت، لكن الأمر لم يكن يعني لي شيئًا. بدا أكثر تماسكًا الآن، وإن ظلّ الحزن يقطن عينيه الرماديتين. ومع ذلك، كان أفضل حالًا، كأن شيئًا من الثقل الذي كان يسحقه قد انزاح أخيرًا.تخدّرت ساقاي من طول الجلوس على ركبتيّ، فدفعتُ الزجاجات المتناثرة جانبًا وجلستُ إلى جواره.قلتُ بهدوء، "أمّك كانت قلقة عليك."أطلق ضحكة قصيرة ساخرة، "فأرسلتك أنتِ؟""أجل.""من بين الجميع؟" رفع حاجبيه بدهشةٍ صادقة، كأنه لا يصدق أن والدته اختارتني أنا تحديدًا.ابتسمتُ بخفةٍ مريرة، "صدّقني، لقد سألتُ السؤال ذاته."ساد بيننا صمتٌ طويل، ولم أستغرب ذلك؛ إذ نادرًا ما كان بيني وبينه تواصلٌ حقيقي. وهذا لم يكن غريبًا، فلم يكن بيننا يومًا ما يُقال.ثم، على نحوٍ غير متوقّع، أخرج لفافةً من جيبه، أشعله
تقدّمتُ بخطواتٍ بطيئة نحو نوح. لم أكن بحاجه إلى أن يخبرني أحدٌ أنّه هو؛ فحتى بعد مرور ستّ سنوات، ما زلتُ قادرةً على تمييزه من بين ملايين البشر.كنتُ أشعر وكأنّ قلبي عالقٌ في حلقي، وأنّ هناك من يعتصر رئتيّ ويسرق الهواء الذي أحاول جاهدًة إدخاله إليهما. قبضتُ على كفّيّ في محاولةٍ لوقف ارتجافهما، لكن دون جدوى.كان شعره الأسود تمامًا كما أتذكّره، لكن ما تغيّر هو هيئته. كتفاه أعرض، وبنيته أكثر صلابة، وجسده بدا أكبر وأكثر وقارًا. بالطبع، آخر مرة رأيتُه فيها كان في العشرين، أمّا الآن فهو في السادسة والعشرين. لم يكن منطقيًا أن أتوقّع أن يبقى على حاله.تابعتُ تقدّمي ببطءٍ شديد، وقدماي تثقلان كأنهما مصبوبتان من رصاص. داعب النسيم وجهي كأنّه يهمس بأسرارٍ لا أستطيع فهمها. اختفى البرد سريعًا، تاركًا خلفه حرارةً مزعجة جعلتني أشعر بالضيق في جلدي.وأخيرًا، بعد ما بدا وكأنه دهرٌ بأكمله، وصلتُ إلى حيث يجلس.وقفتُ خلفه، أتنفّس بعمقٍ محاوِلةً تهدئة نفسي، أفكّر بما عليّ قوله. كنتُ منهمكةً طوال الوقت في فكرة العثور عليه، ولم أفكّر إطلاقًا في ما سيحدث بعد ذلك. وها أنا الآن، واقفةٌ خلفه صامتة، كأنني واقفة خلفه






