جميع فصول : الفصل -الفصل 70

100 فصول

الفصل61

نائبُ سيّد ذُروة الذهب السماويّ اليومَ هو مَنّانُ بنُ عُباب. فإنّ سيّدَ الذُّروة قُتادةَ لما قصّر في تأديب التلامذة، ما زال يتلقّى العُقوبة. وهذه الدَّورة يفتتحها مَنّانُ بنُ عُباب، فلمّا قدم عبدُ الرقيبِ الليثيّ كان مَيدانُ العرض قد غُصَّ بالتلامذة. قال مَنّانُ بصوتٍ وقورٍ: "ما أُلقِّنُكم اليومَ، سوى طُرقِ إخراجِ السّيفِ الأُسِّ، سِوى ذلك طَريقةٌ أُخرى تميلُ إلى الوَقْعِ والهِجَام، وهي من أُصولِ السّيف." "وعلاوةً على سَبْعَ عشرةَ طريقةً أُسًّا لاستعمال السّيف، فإنّ ضمَّ هذه الأصول إلى طَريقةِ الجِسمِ يبلغُ أثرًا أقوى." "يا عبدَ الرقيبِ الليثيّ، هاتِ فاذكر لنا ما هذه السَّبعَ عشرةَ أُسًّا؟" ثمّ أمرَ عبدَ الرقيبِ بالصعودِ إلى المِنصّةِ، وسلّمه سيفًا من حديدٍ مُحكَم. وكان مئاتٌ من المُستجدّينَ في الأسفل يرمقون عبدَ الرقيبِ بأنظارِ الإعظام. فهزَّ عبدُ الرقيبِ منكِبَيْهِ، وقامَ مُمسِكًا بالسّيف. وتحرك السّيفُ مع الجِسم، فأطلق الطّويلُ منه حنينًا خفيًّا في لمحةٍ، وأخذت هيئتُه تتبدّلُ في الميدان آنًا بعد آن. وكان، وهو يلوّحُ بالسّيف، يشرحُ بلسانه. "أمّا الأُسُ السّبعُ عشرةُ فهي: ق
اقرأ المزيد

الفصل62

نَفَسُ القتلِ والهَجْمِ شديدٌ، وليس للدِّفاعِ سبيلٌ إلاّ أن تُحوَّرَ بفضلِ أربعِ صُوَرٍ من طُرقِ الهجومِ بالسيف. ‎فكانَ مَنّان بن عُباب يستعملُ للنِّزالِ صُوَرَ الهجومِ الثلاث: النَّقْرَ، والانقِضاضَ، والنَّهْضَ، فيكرُّ بها على سُيوفِ الخصمِ لتكونَ حِصنًا لهلك. فلمّا ردَّ مَنّانُ بنُ عُباب سيفَه واعتدلَ قائمًا، طأطأ عبدُ الرقيبِ الليثيُّ رأسَه مُفكّرًا. وما شهِدَه اليومَ من عَرْضِ مَنّان فتحَ له بابًا جديدًا بغتةً. وحقًّا كما قالت روحُ السيف، إنّ ضُروبَ السيفِ في هذا العالمِ إنّما تقيمُ في القلب. والضَّرباتُ هي هي، غيرَ أنّ فِعْلَها يختلفُ باختلافِ كيفيّةِ استعمالِك لها. وعندئذٍ غَصَّ خاطرُ عبدِ الرقيبِ بأفكارٍ لا تُحصى، فإذا بالسَّبعِ عشرةَ أُسًّا تُنْبِتُ احتمالاتٍ لا تُعدّ. وخَفَتَ الضجيجُ عند أُذُنَيْه قليلًا قليلًا، وجثا منفردًا مُقَعِّدًا ساقَيْه حتّى دخلَ حالَ الفتحِ والاستبصار! فلمّا أدرك مَنّانُ أن عبد الرقيب دخل في الفتح، أرسل على عَجَلٍ سَطوةً يسيرةً من هَيْبته ليهدأ القوم. وأحسَّ عبدُ الرقيبِ بقلبٍ مصقولٍ لا مِثلَ صفائِه، وفي عالمٍ أبيضَ يغشاه، إذا به يرى ذواتٍ كثي
اقرأ المزيد

الفصل 63

شقَّ عبدُ الرقيبِ الليثيُّ الجمعَ، فرأى في الدّاخلِ فِتْيَةً عِظامًا قد جعلوا مِعوانَ الليثيَّ تحت أقدامِهم. فانعقدَ حاجباهُ وهو لا يعلَمُ السّبب. وكانت صورتُه عن مِعوانَ أنّه رجلٌ حاذقٌ غايةَ الحِذق. وإزاءَ سائرِ الناسِ كان أشبهَ بـ "طَيِّبٍ مُتهاوِن". وأمّا قولُه إنّه حاذقٌ جدًّا، فممّا أحسَّه عبدُ الرقيبِ في أوّلِ لِقائهما. ورُبّما سَهْلُ بنُ رِفادة لا يدري لِمَ دنَا مِعوانٌ منهما، غيرَ أنّ عبدَ الرقيبِ كان على بيّنة. فلولا أنّ رُقعةَ الصعودِ الروحيّةَ لهما يومئذٍ لم تُحْرِقْ إلاّ قليلًا، ما كان مِعوانٌ لِيُقرِّبَهما ويُظهرَ البِرَّ لهما. وإذا مِعوانٌ مُلطّخُ الفمِ بالدّمِ مطروحٌ على الأرض، وفتًى شديدُ البنيةِ يَطَأُ صدرَه بقَدمِه. ولوّحَ بلوحِ اليشبِ في يدِه ساخرًا وقال: "أما كان هذا العملُ الهَيِّنُ أَولى أن تَهَبَهُ لي أوّلًا؟ أه؟" "كيفَ لا تعتبرُون؟" وأمّا مِعوانٌ المطروحُ فلم يُبدِ غضبًا شديدًا لنظراتِ الحاضرين الغريبة. بل قال مُبتسمًا على وجهٍ مَخْضوبٍ بالدّم: "عُذرًا يا الأخَ الأكبر واهب، لم أعلَم أنّك تُريد أن تخرجَ لِلعملِ في هذين اليومين." "لو عَلِمتُ لبادرتُ ل
اقرأ المزيد

الفصل 64

أرخى الليلُ سِتْرَه. وكان عبدُ الرقيبِ الليثيُّ حينئذٍ في شعابِ جبالٍ عِظام. وكانت أصداءُ زئيرِ الوحوشِ تتردّدُ في الجبال، ففي هذا العالمِ وُحوشٌ شيطانيّةٌ كثيرةٌ جدًّا. ولئن لَقِيَ في هذه السّاعةِ وحشًا شيطانيًّا من الطبقةِ الأولى فالأمرُ هيّن، أمّا إن كان من الطبقةِ الثانيةِ فالهلاكُ مُحدِق. فإنّ وحشَ الطبقةِ الثانيةِ يُعادِلُ في الناسِ من أهلِ التزكيةِ طورَ التأسيس. غيرَ أنّه آنذاك أبصرَ على قُنّةٍ بعيدةٍ معبدًا خَرِبًا. فلمّا رآه عبدُ الرقيبِ آنسَ راحةً وزَفَر. فعلى الأقلّ لهُ مَبِيتٌ هذه اللّيلةِ؛ ونظرَ في خريطةٍ في الرُّقيمِ اليَشْبيِّ. ولا يبلغُ بلدةَ نَهْضِ السَّحابِ إلاّ غَدًا عندَ اللّيل. وقد ضاعَ لوحُ اسمِ المعبدِ منذُ زمنٍ بعيدٍ، والمنظرُ المُتهدِّمُ يدلُّ على أنّ المكانَ قَد خَلَا طويلًا. قَرْقَرَة… وفي سكونِ اللّيلِ كان صريرُ دَفْعِ الغلامِ للبابِ مُوجِعَ الأسماع. غيرَ أنّ عبدَ الرقيبِ قد أَلِفَ عالمَ الظُّلْمةِ من قَبلُ، فلا يُحِسُّ من سوادِ اللّيلِ شيئًا كثيرًا. وكان الفِناءُ مِلْآنَ أوراقًا يابسةً وشِباكَ عناكِب. ورفعَ يدَه فكنسَ الشِّباكَ بغِمْدِ السّيف،
اقرأ المزيد

الفصل 65

"هذا الإحساس… حقيقيٌّ جدًّا… ما الذي يحدثُ حقًّا!" ولمّا لم يَكُنْ عبدُ الرقيبِ الليثيُّ قد استوعبَ ما جرى، أحسَّ فجأةً شيئًا التصقَ بعُنُقِه. "اللِّسا… اللسان!" وكان اللَّمْسُ رَخْوًا لا دِفْءَ فيه، بل فيه بُرودة. وكان لسانُ المرأةِ طويلًا جدًّا، يكادُ يبلغُ ذِراعَ رجلٍ كامل. كأنّه لسانُ هرّةٍ بريّةٍ، فيه شوكٌ دقيقٌ مُنعكِس. وجرى اللِّسانُ على عُنُقِ عبدِ الرقيبِ حتّى بلغَ شَحْمَةَ أُذنِه! وكان الإحساسُ الجَلِيُّ الصَّريحُ كأنّ بَرْدًا انفجرَ في رأسِه! "تَحرَّك! تَحرّك الآن!" "لتتحرّكَنَّ لي!!" دَوِيّ! فبِسَوقِ إرادةِ عبدِ الرقيبِ القويّةِ اندفعَ في جوفِه سِفرُ الرَّعدِ المُؤدِّبُ في تسعِ دَوراتٍ دَوَرانًا فجائيًّا. واندفعتْ قُوّةُ الرعدِ من حقلِ الطّاقةِ فجأةً في سائرِ الجسد. طَقّ! وانبعثت في رأسِ عبدِ الرقيبِ نقرةٌ خفيفةٌ، كأنّ خَتْمًا قد انحلَّ. وكأنّ على يدِه اليمنى غِشاءً من ضياءِ صاعقةٍ أُرجوانيّةٍ قد كساه. فضربَ بكفِّه اليسرى منضدةَ البخورِ ضربةً شديدةً، فاستدارَ كلُّه في لَحْظة. وأطلقَ باليمنى كلمعِ البَرْق، فقبضَ بغتةً على عُنُقِ المرأةِ وشدَّها تحتَه! دَكّ!
اقرأ المزيد

الفصل 66

بعد هُنَيْهةٍ ساقَتِ الغُولَةُ عبدَ الرقيبِ الليثيَّ إلى شجرةٍ عَظيمةِ الجِذعِ على غيرِ المألوفِ فوقفا تحتَها. وأشارتِ المرأةُ إلى أسفلِ الجُذور، فنبشَ عبدُ الرقيبِ ما طُمِرَ في الأرضِ من الرُّفاةِ وأخرجه. وفاحَ نتنٌ كريهٌ يَلْطِمُ الوجوهَ، غيرَ أنّ الفتى لم يتغيّرْ لَونُه، وإنّما قَبَضَ حاجبَيْه وهو يَرمقُ العِظام. وبِحَسَبِ ما بدا من الرُّفاةِ فهي لامرأةٍ جاوَزتِ العِشرينَ قليلًا. ونَسَقُ عظامِها يكادُ يوافقُ ملامحَ هذه المرأةِ مُوافقةً تامّة. فأعادَ عبدُ الرقيبِ دَفْنَ الرُّفاةِ في حَنانٍ وحِذرٍ، وكأنّه أقَرَّ حينئذٍ بصِدقِ قولِ المرأة. ثمّ قال خافتًا: "إذ قد كان كذلك… أتُحِبّينَ الدُّخولَ في دَوْرِ العَوْدِ في الينبوعِ الأصفرِ؟ أُجِيزُكِ إليه." وهذه سُنّةُ الإجازةِ إنّما علّمنيها نُعيمُ بنُ تَيْم، وهي طرائقُ أُسّيّة. يكفي أن تُستنهَضَ نَفَسُ السّماءِ والأرضِ لتُعمَلَ، وليستْ من الطُّرقِ العَويصة. فبدتْ على وجهِ المرأةِ إماراتُ تردُّدٍ، وقالت هامسةً: "أيُّها الشيخ… أيمكنُ للصّغيرةِ أن تُؤخِّرَ دُخولَ العَوْدِ يومَيْنِ؟" فهزَّ عبدُ الرقيبِ منكِبَيْه لا يدري لِمَ قالتْ، وظنّ
اقرأ المزيد

الفصل 67

لوّحَ عبدُ الرقيبِ الليثيُّ بكفِّه فأخرجَ الرُّقيمَ اليَشْبيَّ للهُويّةِ مُظهِّرًا صِفَتَه. فانحنى أهلُ بلدةِ نَهْضِ السَّحابِ للفتى يؤدّون التحيّةَ على هيئةِ العيّان. وقال الشيخُ المتقدِّمُهم بصوتٍ رصين: "العبدُ المُسنّ اسمي غَيْهانُ بنُ يُمْنٍ، ومعي أهلُ بلدةِ نَهْضِ السَّحاب، نُحيّي شيخَ طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر!" وكان الناسُ جميعًا يُؤدّون التحيّةَ بوجوهٍ صادقةٍ ونُفوسٍ مُخلِصة. فهزَّ هذا المشهدُ فؤادَ الفتى رجفةً عظيمة! أيُّ طائفةٍ هذه التي تُكسِبُ تلميذًا عاديًّا من أبنائِها هذا الإجلالَ في حَوزتِها! وهذه أوّلُ مرّةٍ يجدُ عبدُ الرقيبِ نَفْسَه فخورًا أشدَّ الفخرِ بانتسابِه إلى طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر! وغيَّرَ عبدُ الرقيبِ في لَمْحَةٍ لباسَه إلى لِباسِ الطائفة، وسَوّى جَيبه وانحنى يَرُدّ التحيّةَ وقال: "تلميذُ ذُروةِ الرَّعدِ السماويّ من طائفةِ سيفِ الصَّيفِ الأكبر عبدُ الرقيبِ الليثيّ، جئتُ مأمورًا إلى هذا المكان!" وكان غَيْهانُ بنُ يُمْن قد جاوزَ الثمانين، وشَعْرُه المُشيبُ وسمتُه المُتعَبُ زاداهُ شيخوخةً في المَنْظَر. وأسرعَ الشيخُ إلى جانبِ الفتى وقال بوقارٍ: "أ
اقرأ المزيد

الفصل68

غيرَ أنّه كانَ يُراقِبُ خلقًا كثيرًا في الطريق، فانقبضَ حاجباه. فقطعَ صوتُ الشيخِ خاطرَ عبدِ الرقيبِ الليثيّ فجأةً. "أيُّها الشيخُ، هذه دارُ فاضل بنِ كُلَيْب." "وقد هلكَ ليلتَنا قبلَ أمس، ولم نُمهِّدِ الدارَ بعدُ." فهزَّ عبدُ الرقيبِ رأسَه يسيرًا. ثمّ مالَ قِبَلَ البابِ ومشى إليه، ودفعَه على مَهَل. قَرْقَرَة! فأطلقَ البابُ الخَشبيُّ الخَرِبُ صريرًا عظيمًا. وأوجسَ السّامعُ رَهْبةً من صوته، ثمّ إنّ ما بدا من داخلِ الدارِ حملَ عبدَ الرقيبِ نفسَه على شهيقٍ بارد. فاحتَ رائحةُ الدّم، وبرُدَ هواءُ الحُجرةِ بغتةً. وارتعدَ جلدُ ذراعي عبدِ الرقيبِ بما رأى. فإذا برجلٍ شديدِ البِنيةِ مُعلَّقٍ منكوسًا بحبلٍ من لِيفِ القِنَّبِ في عارضةِ السّقف. ومِقصٌّ مُلْبَسٌ في مِعْصَمِه، وعلى شَفرتِه كُتلةُ لحمٍ مَغروزة. ونظَرَ فإذا عيناهُ قد خَلَتَا إلاّ من جُبَّتَيْ دمٍ. وأصابعُ قدميه كلُّها قد قُطِعَتْ قطعًا! وأمّا القاضيةُ فشقٌّ طويلٌ في العُنق. غيرَ أنّ حواشيَه مَخروشةٌ بكُلومٍ كثيرة. وكأنّما كان المِقصُّ كليلًا فكان يكرُّ على الموضعِ كَرّاتٍ. وقد فرشَ الدّمُ الأرضَ كلَّها، وصار الآنَ لَزِ
اقرأ المزيد

الفصل 69

وموضعُكَ عند النافذة إنّما هو ليكونَ أيسرَ عليها أن تبطِش، وأمّا التزكيةُ… وأنتَ بجسمٍ عُذريٍّ لو لم تُزكِّ لَكنتَ كفانوسٍ في سِترِ الليل، والتزكيةُ إنّما تزيدُه شُموعًا لا غير. فلمّا قالتْ ذلكَ روحُ السيفِ نبَّهتْه فجأةً: "غيرَ أنّكَ لا تَخَفْ، فهذه المرّةُ أستطيعُ أن أتدخّل!" فبُهِتَ عبدُ الرقيبِ قليلًا؛ فإنّه لم يكن يَرجُو منها تدخّلًا. فلمّا سمعَ ذلكَ تبسّم وقال: "ما الأمرُ؟ أأصبحتِ تخشينَ عليَّ، فتعملينَ بنفسِك؟" فسكَتَتْ. وبعدَ حينٍ طويلٍ جاء صوتُ روحِ السيفِ وفيه سُخريةٌ تغلِبُها كِبرياءٌ: "يبدو أنّكَ أعمى حقًّا؛ لا تَعرِفُ قَدْرَ نفسِكَ." "أأخشى عليك؟ إنّما أخافُ أن لا أجدَ بعدَ اليومِ موضعًا أمتصُّ منه قُوّةَ الجوهر." "وقُوّةُ الضَّغينةِ الآثمةِ للغُولِ الشّريرِ أستطيعُ أن ألتقطَ منها طرفًا؛ وإلى أن تبلغَ طورَ التأسيسِ ينبغي لي أن أقتاتَ من سواها." ثمّ خمدَ صوتُ روحِ السيفِ شيئًا فشيئًا. وأمّا عبدُ الرقيبِ فارتسمَتْ على شَفَتِه ابتسامةٌ وهمسَ: "قد استقامَ الأمر." غيرَ أنّ الليلَ بعيدٌ، فجلسَ عبدُ الرقيبِ مع أهلِ البلدةِ على طعامِهم المحلّيّ. فأثارَتْه مذاقُ الفلفل
اقرأ المزيد

الفصل70

ثمّ تَتالى إلى عبدِ الرقيبِ خبرُ أمرٍ في البلدةِ يَتّقيه الناسُ ويَفرّونَ منه. ومع انحدارِ الشَّمسِ رويدًا رويدًا خَلْفَ الجبالِ خَبَتْ أضواءُ الأصيل. وانصرفَتِ المرأتانِ اللّتانِ كلّمتاه على عَجَلٍ إلى دارهما. "ليلى الزهراء، وزهراء بنتُ صَفْوٍ." "تاجرتا بالأطفال." لفظَ عبدُ الرقيبِ هذه الكلماتِ بصوتٍ خافتٍ ووجهٍ ساكن. وكانت عُقَدُ الأمرِ في صدرِه كأنّها وجدتْ طَرَفَ الخَيط. ولم يبقَ إلاّ انتظارُ ظهورِ الغُولِ الشّريرِ ليُحلَّ اللغزُ كلُّه. نزلَ سِترُ الليل، وكان العُمدةُ قد غابَ عن دارِه من قَبل. ولم يبقَ في فِناءِ العُمدةِ إلاّ عبدُ الرقيبِ وحدَه. وكانتِ الغُرَفُ مُضاءةً وليس فيها أحد، سوى سِراجِ زيتٍ، ورجلٍ من ورقٍ ممزَّقٍ قائمٍ بين يدَيِ النار. وكان في ظلِّ النّافذةِ صورةُ جالسٍ مُعتدلٍ. فلمّا حلَّ الساعة الواحدة فجرًا، غدتْ بلدةُ نَهْضِ السَّحابِ، وهي في الأصلِ ساكنةٌ، أسكنَ ما تكونُ وأرهبَ. حتى إنّ كلابَ السَّوْقِ سكَتَتْ، فكأنّ البلدةَ ماتتْ. ولم تكنْ ريحُ تمّوزَ تعوي وتزمجرُ، بل هبَّتْ تهزُّ أوراقَ الأرضِ فتصدرُ هَمْسًا خفيًّا. وظهرَ في ذؤابةِ شجرةٍ عندَ فمِ القر
اقرأ المزيد
السابق
1
...
5678910
امسح الكود للقراءة على التطبيق
DMCA.com Protection Status