Share

الفصل 3

Author: حلوى الكستناء

مضى وقت طويل منذ تلك القبلة المنفلتة تحت ليل الصحراء.

رافقت يارا فارس في رحلته إلى المدينة الرابعة عشرة، التي تبعد أكثر من ألف كيلومتر، مدينة صغيرة مزدهرة وسط أطراف الشمال الغربي القاحلة. بالنسبة لها، كانت أشبه بواحة بعد سنوات من الضياع والجفاف.

هنا… يوجد فندق نظيف، وغرفة وحمام حقيقي.

رنّ صوت الماء في الغرفة الضيقة، وأخيرًا غسلت يارا عن وجهها الغبار العالق منذ أيام.

قوامها الطويل المتناسق، وصلابتها التي تشبه وردة تشق شوك الصحراء، جعلتها مشرقة رغم التعب.

على المغسلة وُضعت مفاتيح سيارة الجيب؛ علامة الاطمئنان التي منحها إيّاها فارس.

حدّقت في انعكاسها بالمِرآة: لا هشاشة، لا خوف… بل عينان تحملان عزيمةً لا تهدأ، ورغبة متوحشة في الصعود.

هي تعرف أن فارس هو الجسر الوحيد للخروج من حياتها السابقة، وتعرف أنه يحمل امرأةً أخرى في قلبه، لكنها لم تهتم بذلك أبدًا.

يارا تريد أن ترى العالم؛ أن ترى الأفق الأزرق، والمباني التي قرأت عنها، وكل شيء وكل ما حُرمت منه.

قبلتُهما تلك… صارت كسراب الصحراء، ولم تتكرر أبدًا.

وبسبب العاصفة الرملية، لم يتبق سوى غرفة واحدة في الفندق.

فأقاما فيها أيامًا طويلة، حتى جاء ذلك اليوم…

بعد استحمامه، جلس فارس على السرير وأخرج هاتفه الأسود.

ومنذ لحظة تشغيله، لم تتوقف اهتزازات الرسائل.

رأى شيئًا ما جعل لونه يشحب، وصار الغضب يتصاعد من جسده.

يارا لاذت بالصمت، تراقبه من سريرها دون أن تجرؤ على التدخل.

وفجأة انطفأت الأنوار.

جلس فارس، ظهره نحوها، وصمته يملأ الغرفة الصغيرة. وبعد وقت ليس بقصير… فتح الباب وغادر.

طال غيابه.

وعندما وجدته يارا في حانة بالدور الأرضي، كان ثملًا، وعيناه تغرقان في حزن لا تريد أن تفهمه.

خمر الشمال الغربي لا يحرق الفم… لكنه يضرب الجسد كالنار.

كادت امرأة أن تضع يدها على كتفه، لولا أن أمسكتها يارا قبل أن تلمسه.

"هو… لي."

قالتها بصوت بارد كالريح الليلية، ونظرة جعلت المرأة ترتجف.

عاد إلى الغرفة على كتفيها. وبين أنفاسه الثقيلة سُمعت كلماته المبعثرة:

"لماذا… تختارين أخي… دائمًا؟"

في الغرفة المعتمة، مسحت يارا جبينه بمنشفة مبللة ؛ كان جسده يشتعل حرارة، حتى رجال الحدود لا يشربون من هذا الخمر سوى نصف إبريق… أما فارس، فشرب أربعة أو خمسة.

بينما كانت يارا تدير المنشفة على رقبته، لم تنتبه إلى أنه فتح عينيه.

سمعها تهمس له:

"لا تخف… حتى لو تركك العالم، أنا لن أتركك."

"سأبقى معك… دائمًا."

يا لروعة الوعد الذي تسلّل إلى قلبه.

خمر "العَصَب" لا يسقط شاربه… بل يجعله يقظًا أكثر، قويًا أكثر، ويحرق ما بقي من اتزانه الداخلي.

لم يكن في رأس فارس سوى فكرة واحدة.

قبض خصرها فجأة، فسقطت المنشفة من يدها.

دارت الدنيا من حولها، حتى اصطدمت عيناهما ببعض.

التهمت شفتاه صوتها، وارتجف قلبها بعنف.

حاولت يارا التملّص لوهلة، لكن ذكرى تلك الليلة في الصحراء أعادتها إلى السكون.

كان يتعامل معها كأنها الماء الذي ينقذه من الاحتراق.

واستسلمت.

وفهمت حينها فكرة أهل الحدود… لماذا يقولون إن خمر الشمال لا يُكثر منه: لأنه شديد حد الجنون.

عضّت شفتيها كي لا تصدر صوتًا، لكن فارس لم يسمح لها بذلك.

وفي ظلمة الغرفة الصغيرة، كان السرير يئنّ، وهي تتشبث بكتفيه، وتنكمش وتتسع ملامحها تحت إيقاعه المضطرب.

وللمفارقة… كان فارس، بكل قوته الظاهرة، حديث الخبرة حد الارتباك.

حتى خيّم الهدوء، وبقي صوت أنفاسهما فقط.

سمعت صوته الخافت المبحوح: "هل أنتِ… بخير؟"

لقد استعاد وعيه… ونظرته إليها غامضة، ثقيلة.

لطالما حلم أن يمنح "تلك المرأة" أجمل أول مرة… لكنها صارت من نصيب يارا.

بل وحتى أول مرة له...أعطاها لها.

كانت الغرفة خانقة، تضرب الرياح النافذة القديمة بقسوة.

احتضنت يارا عنقه، خجلًا من الإجابة.

لكنها لم تتوقع ما يلي. همست، مترنّحة: "كيف… مرة أخرى…؟"

بدت لها اللحظة كأنها تعيش اليوم الذي هربت فيه من القرية—من ليل إلى نهار، تركض بلا ماء، بلا قوة… لكنها تواصل.

هل كان هذا أثر الخمر؟ أم مرارة الخيانة التي تتفجر داخله؟ فارس وحده يعرف.

عندما استيقظت يارا في مساء اليوم التالي… كان أول ما فكرت به:

"فارس… ذئب. أقسى من ذئاب تلك الليلة."

بعد تلك الليلة، تغيّر.

قال لها إنه سيتحمّل مسؤوليتها.

استأجرا بيتًا صغيرًا على أطراف المدينة.

علمته عن الرمال ومخاطرها، وعلّمها هو أساليب الدفاع.

مرّت الأيام… لم يفتح فارس هاتفه الأسود، ولم يأخذ يارا إلى أي مكان.

بقيا في المدينة الرابعة عشرة… بلا خطط ولا وعود.

وكان يزداد تعلقًا بها كل ليلة.

وكلما ازداد تعلقه… ازدادت مخاوفها.

بعد أسبوع، في منتصف الليل...أصوات الألواح، أنفاس المرأة، صرخات الرجل.

أيقظت الجيران، لكن ما إن فتح أحدهم الباب ليصرخ عليهم… حتى رأى رجالًا ببدلات سوداء يملؤون فناء البيت، فعاد إلى الداخل مرتجفًا.

وفي تلك الليالي، نشأت بين يارا وفارس تلك الحميمية التي لا تُسمّى.

قوته كانت تعصف بأنفاسها، وهي تتشبث به كمن يطلب الحياة.

إلى أن صمتت الأصوات فجأة…

والتقطت أذناها دقات قلبه… ودقات قلبها.

ثم...ثلاث طرقات منتظمة على الباب:

"سيدي … أرسلتنا السيدة لنأخذك إلى المنزل."
Continue to read this book for free
Scan code to download App

Latest chapter

  • بعد 99 محاولة هروب من الزواج، ارتقت إلى طبقة النخبة   الفصل 30

    في لحظة، أصبحت يارا وزميلها محور أنظار الجميع.سارعا مديرا القسمين إلى التوضيح، مؤكدين أن الاثنين مجرد متدربين، وسيُعاد تدريبهما لاحقًا على نظام الشركة.أمام نظرات الجميع، التقت يارا بعيني فارس الداكنتين، وقد شعرت بالحيرة من استهدافه المفاجئ.لحسن الحظ، أشاح بنظره بعيدًا بسرعة، وارتسمت على وجهه ملامح باردة بشكل ملحوظ، وباتت هالته أشد رهبة.انتهى الاجتماع الصباحي في جو متوتر، وكان فارس أول من غادر قاعة الاجتماعات.وباعتبارهما متدربين، خرجت يارا وزميلها في الأخر.من خلال حديثه الحماسي، علمت أن اسمه مالك جابر، طالب في قسم المالية بجامعة الأمل، وأنه قد بدأ تدريبه في مجموعة المشرق الأسبوع الماضي.كان منفتحًا وسألها بمبادرة: "ما اسمكِ؟ هل أنتِ طالبة أيضًا؟"تقدم مجموعة المشرق فرص تدريب خلال عطلتي الشتاء والصيف كل عام، وهي فرصة تنافسية للغاية لطلاب أفضل الجامعات في جميع أنحاء البلاد، وكان مالك من بين أفضلهم."اسمي يارا." فهي لم تكن تنوي إطالة الحوار معه.ثم قال بخجل لطيف: "هل يمكن أن نتبادل أرقام التواصل؟ أود دعوتكِ للعشاء يومًا ما لأشكركِ على مساعدتكِ اليوم."فجأة، تظاهر السكرتير وليد بالسعا

  • بعد 99 محاولة هروب من الزواج، ارتقت إلى طبقة النخبة   الفصل 29

    "يارا، ندى أخذت إجازة اليوم. بعد قليل ستأتين معي لحضور اجتماع الصباح."صُدمت يارا. فوفقًا لقواعد المجموعة، لم تكن مؤهلة كونها متدربة صغيرة، لحضور الاجتماع الصباحي للمجموعة، ولا حتى لرفض مديرها.أخذت دفتر ملاحظاتها الجديد وتبعت مدحت إلى غرفة الاجتماعات، وجلست في أكثر الزوايا خفاءً.ما إن بدأ الاجتماع، حتى دخل فارس مرتديًا بدلة وربطة عنق. وبعد أن جلس، لمع بريق الماسات داخل ساعته الثمينة تحت الأضواء."لنبدأ." دوى صوته اللامبالي، وساد جوٌّ من التوتر في قاعة الاجتماعات بأكملها على الفور.بدأ كل مدير قسم بتقديم تقريره بانتظام.جلست يارا في آخر القاعة، تنظر إلى الرجل الجالس في رأس الطاولة.كان متجمد الملامح، كأنه قمة ثلجية في أقاصي الشمال، باردًا ومنعزلًا، تحيط به هالة تمنع الآخرين من الاقتراب أو حتى من النظر المطوّل في عينيه.كان زميلها الجالس بجانبها، والذي بدا أنه من قسم المدير الذي يتحدث الآن، قد نفد حبر قلمه، فطلب المساعدة من يارا بعجز.ولأنه لم يجرؤ على رفع صوته، مال قليلًا نحوها.خفض صوته وقال: "معذرةً، هل يمكنني استعارة قلمكِ الأسود للحظة؟ لقد نفد حبر قلمي."قابلت يارا نظراته المُعتذر

  • بعد 99 محاولة هروب من الزواج، ارتقت إلى طبقة النخبة   الفصل 28

    خلال اليومين التاليين، لم ترَ يارا فارس إطلاقًا.استغلت عطلة نهاية الأسبوع، وحزمت الملابس التي أعدّها فارس لها، وأخذت ما ارتدته وتركت ما لم ترتده في خزانة الملابس.في المرة السابقة، اختارت شقة بالقرب من جامعة الأمل، على بُعد بضع محطات من قطار الأنفاق فقط، وكان المجمع السكني أمام المخرج مباشرةً، مما يجعله موقعًا مريحًا من كل الجوانب.وما إن فتحت الباب بالرمز، حتى اكتشفت أن "الشقة الصغيرة" التي تحدث عنها وليد، تزيد مساحتها عن مئتي متر!كان التصميم الداخلي فخمًا وبسيطًا، يناسب ذوق فارس تمامًا.لم تطلب من وليد إعادة تصميمها؛ مجرد وجود مكان تستقر فيه كان كافيًا لها، ولم تهتم كثيرًا بالشكل أو التفاصيل.كان الأثاث من نفس ماركة منزله في قصر النجوم.حتى الأريكة الوحيدة التي أحبتها يارا هناك، كانت لها واحدة مماثلة في شرفة هذه الشقة.بنظرة سريعة إلى تخطيط الشقة: ثلاث غرف وصالتان، الجناح الرئيسي فسيح بإضاءة ممتازة، أما الغرفتان الأخريتان فواحدة مكتبة، والأخرى صالة رياضية صغيرة.وضعت ملابسها في غرفة الملابس داخل الجناح الرئيسي، وكانت مساحةٍ تتجاوز الأربعين مترًا، لم يكن هناك سوى ست أو سبع قطع معلّق

  • بعد 99 محاولة هروب من الزواج، ارتقت إلى طبقة النخبة   الفصل 27

    أبقت رأسها منخفضًا ولم تُجب.أكمل السكرتير وليد: "آنسة يارا، اسمحي لي أن أقول شيئًا آخر، السيد فارس ليس قاسيًا تجاهكِ حقًا."وكيف لم تُدرك ذلك؟لقد خطط فارس عمليًا لكل خطوة في مستقبل يارا.لقد عاشرت هذا الرجل الوسيم المتميز لفترة طويلة دون مقابل، وحتى لو انفصلا، فسيظل لديها منزل وسيارة ومال ووظيفة. مَن في العالم يمكنه مجاراته؟دون أن تطلع على تفاصيل الوثيقة، رفعت رأسها مباشرةً وسألت السكرتير وليد: "وما هي شروطه إذن؟"نظر إليها السكرتير وليد بنظرة رجل ذكي وابتسم، ثم قلب الوثيقة إلى الصفحة قبل الأخيرة، مشيرًا لها أن تطالعها، فيما بدأ بتلخيص شروط فارس.أصبحت نبرته جدية: "لا يُسمح لكِ بإخبار أي أحد بعلاقتكِ السابقة بالسيد فارس. لا تثيري غضب السيدة رباب أو الآنسة منار، وأيضًا..."وعندما وصل إلى النقطة الثالثة، توقف السكرتير وليد عمدًا قبل أن يقول: "من الآن فصاعدًا، إن رأيتِ السيد فارس، فتجنّبيه تمامًا."باختصار، كان يقصد أنه من الآن فصاعدًا، لا ينبغي أن يكون لها أي صلة بفارس أو عائلته.ولم يكن هذا صعبًا على يارا.لكن لماذا ينقبض قلبها بهذه القسوة؟ألم تكن متأكدة بأنها لم تقع في حب فارس أصلً

  • بعد 99 محاولة هروب من الزواج، ارتقت إلى طبقة النخبة   الفصل 26

    انغمست يارا في فرحة حصولها على تدريب في مجموعة مالية مرموقة، غافلةً تمامًا عن ذلك التعبير المعقد العابر في عيني فارس.وسريعًا ما أنهت ترتيبات عملها الجزئي في المقهى.كان مديرها وزملاؤها جميعهم في غاية اللطف، ولما علموا أنها ستتدرب في مجموعة المشرق، هنأوها جميعًا.وفي صباح اليوم التالي.نهضت يارا واختارت عمدًا زيًا بسيطًا وأنيقًا، ثم اتجهت لتطرق باب غرفة النوم الرئيسية، لتكتشف أنها خالية تمامًا.تفقدت هاتفها، فلم تكن هناك أي رسائل.كان الأمر غريبًا، ما زال الوقت مبكرًا على موعد العمل، فأين ذهب فارس في هذا الوقت المبكر؟ولم تعرف الإجابة حتى وصلت إلى مجموعة المشرق، وعلمت أن فارس اصطحب فريقه في رحلة عمل إلى الخارج، دون تحديد موعد للعودة.وما أدهشها أكثر هو أن وليد المساعد التنفيذي للرئيس لم يسافر معه، بل بقي خصيصًا ليتولى إجراءات تدريبها، وكذلك إجراءات نقل الملكية العقارية.ابتسم وليد ابتسامة مهنية واسعة وقال: "آنسة يارا، هذه العشرات من العقارات جميعها مملوكة للسيد فارس.""نظرًا لدراستكِ القادمة، وأولويتكِ في جامعة الأمل، فقد رتبت لكِ العقارات الواقعة ضمن نطاق ثلاثة كيلومترات من الجامعة: ع

  • بعد 99 محاولة هروب من الزواج، ارتقت إلى طبقة النخبة   الفصل 25

    كانت الساعة السابعة مساءً في حر الصيف اللاهب، ولا تزال السماء تتلألأ بآخر خيوط الغروب.كان فارس يرتدي بدلة داكنة مفصّلة على مقاسه، واقفًا أمام النافذة الممتدة من الأرض إلى السقف، يجري مكالمة وهو يوليها ظهره.قوامه المثالي وحضوره الطاغي جعلاه كأنما وُلِد ليكون محور الأنظار؛ فكل حركة منه تنضح بهالة قوية ومهيبة. مجرد وقوفه هناك كان كافيًا لجذب انتباه الجميع.ولم تكن يارا استثناءً.لكن هذه المرة، قبل أن يلتفت فارس إليها، كانت قد رتبت ملامحها وأخفت ارتباكها جيدًا.ومن خلال الظل المنعكس على زجاج النافذة، لمح وجودها، فمال بجسده قليلًا ولوّح لها بيده مشيرًا أن تقترب.وقفت يارا إلى جانب فارس عند النافذة، تطلّ معه على الطرق المزدحمة أسفلهم، وعلى بحرٍ من الأضواء المتلألئة.إحساس أن كل شيء تحت قدميك، وأن المدينة بأسرها خاضعة لنفوذك، كان شعورًا آسرًا بالنسبة ليارا.انتهت المكالمة.التفت فارس نحوها ثم قال بصوته العميق، بنبرة تحمل أكثر مما تُظهر: "هل ترين ذلك؟"ولما التقت عيناها سواد عينيه العميق، فهمت تمامًا ما يقصده.هذا المشهد من قمة السلطة، وهذا العلو فوق صخب المدينة، لم يكونا شيئًا يمكن الحصول ع

More Chapters
Explore and read good novels for free
Free access to a vast number of good novels on GoodNovel app. Download the books you like and read anywhere & anytime.
Read books for free on the app
SCAN CODE TO READ ON APP
DMCA.com Protection Status