بعد تلك النوبة التي أثارها أحمد، اختفى تمامًا ولم يُر له أثر طوال يومين أو ثلاثة.مما جعل القلق يستفحل في قلب سارة، راودها شعور غامض بأن هناك أمرًا ما قد انكشف، لكنها لم تملك يقينًا."إن كان قد علم بأمر حملي، فهل كان ليتصرّف بهدوء؟ على الأرجح كان سيفقد صوابه، ولن يسمح لي بالعيش بهدوء وأنا آكل وأشرب كأن شيئًا لم يكن."في الآونة الأخيرة، لاحظت سارة أنها باتت تتناول وجبات إضافية أكثر من المعتاد، بل إن الطعام نفسه بدا وكأنه أُعد خصيصًا لتغذية جسدها وتعويضه، لم تكن متأكدة إن كان ذلك محض صدفة أم مجرد وهم، لكنها شعرت أن الأطباق كانت مليئة بالمكوّنات المفيدة للمناعة والتغذية.سألت سارة فاتن عن الأمر، فأجابتها بأنها من أعطت التوجيهات للمطبخ ليُعد لها هذه الوجبات.أوضحت لها فاتن أنها حامل، وتُعاني من أعراض الحمل القاسية، الغثيان والقيء يرهقها بشدة، لذا لا بدّ من الاهتمام بتغذيتهاوبغياب أحمد، خيم على حديقة الورد صمت ثقيل أشبه بجو ما قبل العاصفة، ومع أن كل شيء بدا هادئًا في الظاهر، فإن سارة لم تستطع كبت ذلك الشعور المقلق الذي كان يتنامى في داخلها.راقبتها فاتن وهي تغوص في الشكوك والوساوس، فابتسمت
منذ أن علم أحمد بحمل سارة، أصبح يعيش في دوامة من العذاب لا تهدأ، يقمع ذلك الوحش الكامن في أعماقه بكل ما أوتي من قوة، يخشى أن يؤذي سارة ولو دون قصد.ومع ذلك، كان الغضب المستعر في صدره يتضاعف يومًا بعد يوم، والغيرة تنخر ملامحه حتى بات لا يعرف نفسه.ظل يسأل نفسه مرارًا وتكرارًا، لماذا لا يكون هذا الطفل له؟ لو كان طفله، لما احتاج لكل هذا الكبت، لما تألم بهذا الشكل.كان محمود يضمد جراحه بينما يحاول تهدئته قائلًا: "سيد أحمد، رجاءً، حاول أن تهدأ، لا تؤذِ نفسك أكثر من ذلك."ابتسم أحمد بمرارة وقال: "محمود، لو كنت مكاني، ماذا كنتَ ستفعل؟"أجابه محمود بهدوء: "أنا لست متزوجًا بعد، لذا لا أستطيع وضع نفسي مكانك، ولن أتمكن من تقديم رأي مفيد."كان محمود يعلم أن أحمد يشبه الآن سائقًا مرهقًا يقود بسرعة جنونية، وكل ما يربطه بالحياة خيطٌ مشدود، لو تراخى لحظة، لانتهى كل شيء بكارثة.هو لا يجرؤ على تقديم النصيحة، ولا يملك القدرة على ذلك.فالسبب الرئيسي لكل ما وصلت إليه الأمور بين سارة وأحمد هو زهرة.كلاهما من دمه، والاثنتان تنبضان في قلبه، حتى وإن كانت زهرة قد أساءت، فهي تظل الأخت التي بحث عنها سنوات طويلة،
تجهمت حواجب سارة بغضب، هذا الرجل لا يكفّ عن إثارة المواضيع التي لا تحتمل، وكأنّه يصرّ على الضغط على مواضع الألم، ماذا دهاه؟مدّت يدها اليسرى محاولة دفع جسده القابع كجدار يسدّ أنفاسها، لكن حينما لامست أصابعها جسده، شعرت بسائل رطب يلطخ جلدها.كان هناك شيء غير طبيعي... إنه دم.لقد أصبحت شديدة الحساسية تجاه رائحة الدماء.أضاءت سارة المصباح، لتجد أن قميصه الأبيض قد تلطّخ تمامًا بالدم القاني، يسيل عليه بعشوائية مخيفة.لكن، ألم يكن في الفيلا طوال الوقت؟ كيف تحوّل حاله إلى هذا الشكل في لحظات قليلة فقط؟قالت بغضب مكتوم: "من فعل بك هذا؟"لكن أحمد لم يُظهر أي اكتراث، بل مدّ يده محاولًا لمس وجهها.قال بصوت مبحوح: "حبيبتي سارة، لقد جرحتُ يدكِ، سأعيد لكِ يدك بهذه الذراع... فقط لا تغضبي مني، أرجوكِ".كانت نظراته متوسلة بجنونٍ مؤلم، جعلت سارة تعجز عن الرد للحظة.تمتمت باستهجان: "هل فقدتَ عقلك؟"لم يُنكر، بل رفع يده الملطخة بالدماء ولمس خدّها بلطف غريب، وقال: "أجل، أنا مجنون... حبيبتي سارة، طالما أنكِ لن ترحلِي، يمكنكِ أن تفعلي بي ما تشائين".نظرت إليه ببرود وسألت: "حتى لو قتلتك؟"بدأت الدماء تنزف من أ
لقد سمع أحمد هذه الجملة من عددٍ لا يُحصى من الناس، "عامِل سارة بلطف"، ومع ذلك، ها هو اليوم من وضعها في هذا المأزق بنفسه.قال بصوت خافت، وكأنه يعترف بأمرٍ ثقيل: "حسنًا، فهمت. هي ما زالت تُكنّ في قلبها بعض الشكوك تجاهي، لذلك لم ترغب في أن أعلم بحملها، لذا لا داعي للإكثار من الكلام، فقط اعتني بها جيدًا، وإن طرأ أي تغيّر على حالتها، أخبرني فورًا. خلال إقامتها في لؤلؤة البحر، حاول تلبية كل ما تحتاج إليه قدر الإمكان".أجابت فاتن: "حسنًأ، فهمت يا سيادة الرئيس، كنت أعلم دائمًا أنك تُحب السيدة سارة بصدق".قالتها دون أن تدرك أن كلماتها تلك قد باعت سارة بالكامل دون أن تشعر.قال أحمد بإيجاز: "بإمكانك الانصراف الآن".أُغلِق باب المكتب، ووضع أحمد يده على جبينه، بينما الأخرى اتجهت فورًا لطلب رقم رامي.ردّ رامي فورًا بصوت شبه معتاد: "سيادة الرئيس، هل حصل شيء للسيدة مجددًا في هذا الوقت من الليل؟" لقد أصبح معتادًا على ذلك، فغالبًا ما تكون الأمور متعلّقة بسارة.صمت أحمد للحظات، وكان يحدّق إلى أعمدة الإنارة في البعيد، ثم قال ببطء: "في حال حدوث حمل غير متوقّع، ما هو أنسب وقت للإجهاض؟"كان رامي قد أخذ رشفة
نظرت فاتن إلى أحمد بدهشة، فبرغم كل ما جرى، إلا أنه كان واضحًا للجميع في قصر الورود كم كان يعتني بسارة هذه الأيام، رعايته لها كانت دقيقة، لا تغفل أدق التفاصيل.حتى لو كان يعتزم الزواج من صفاء، فمشاعره تجاه سارة لم تكن زائفة، كل من في القصر قد رأى ذلك بأمّ عينه.لكن... كيف لرجلٍ كان زوجها أن يجهل حتى أبسط ردود الفعل الطبيعية لفترة الحمل؟قالت فاتن بنبرة مستغربة: "سمعتُ السيدة سارة تقول إنها لم تكن تملك أي خبرة في ذلك الوقت، عانت من القيء طيلة ثلاثة أشهر، وكان وضع الجنين غير مستقر، كانت تضطر للذهاب إلى المستشفى يوميًا لأخذ إبر التثبيت، والدتي جرّبتها من قبل... كانت مؤلمة جدًا."ثم أضافت بنبرة خافتة: "لكن السيدة سارة كانت متعلقة بذلك الطفل بشدة، رغم أنه في أول أربعين يومًا لم يظهر له نبض، نصحها الطبيب بالإجهاض، لكنها توسلت إليه أن يمنحها أسبوعًا آخر فقط، كانت خائفة جدًا، ومع ذلك تمسكت بالأمل، لحسن الحظ، وبعد بضعة أيام فقط، ظهر نبض الجنين."تنهدت فاتن وقالت بأسى: "لكنها لم تكن محظوظة، ففي الشهر الثاني تقريبًا، نزل منها الدم فجأة، ارتعبت كثيرًا، واضطرت إلى البقاء في المستشفى أسبوعًا كاملًا ح
كانت الكلمات بسيطة، لكنها كانت كافية لتهوي فاتن على ركبتيها فجأة، ثم قالت بصوت مرتجف: "سيد أحمد، سأعترف لك، سأقول كل شيء!"عقد أحمد حاجبيه، هل اعترفت بهذه السرعة؟ هو حتى لم يمارس أي ضغط بعد.قال بهدوء: "تكلمي".أجابت بسرعة: "الورود التي قُصّت من الحديقة، شعرت أنه من المؤسف رميها، فكنت آخذها في المساء وأبيعها بعشرة عملات للزهرة الواحدة، لم يكن ذلك طمعًا، فقط لأن وضعي المالي صعب، وجدتي مريضة، أعتذر منك يا رئيس أحمد، لن أكرر ذلك مرة أخرى".ازدادت خطوط التجاعيد بين حاجبيه، وقال: "هذا فقط ما أردتِ قوله؟"مسحت فاتن دموعها وقالت: "و… وشيء آخر، سأعترف به أيضًا، في إحدى المرات حين كنت أُقلم الزهور، ارتجفت يدي دون قصد، فقصصت قلبًا يشبه تفاحة، سيد أحمد، أرجوك لا تشكك في مهاراتي، كنت مصابة بحمى في ذلك اليوم".رفع أحمد يده إلى جبينه، وبدت عليه علامات الضيق الواضحة، وقال ببرود: "ما هذه الترهات التي تقولينها؟ أنا طلبت منكِ أن تخبريني عن سارة، هل لاحظتِ أي شيء غير طبيعي أثناء رعايتكِ لها؟"مسحت فاتن عرق جبينها وقالت: "السيدة سارة؟ مؤخرًا شهيتها ضعيفة للغاية".قال بحدة: "وماذا أيضًا؟"أجابت: "لا شيء آخ