مشاركة

الفصل8

مؤلف: ظل الغيم الماطر
ليان لا تبدو عليها سِمة المهجورة، وقد ارتدت حُلّة الملكة، سامية كفينيقٍ هبط إلى الدنيا.

وعيناها صافيتان باردتان، سواداهما خفيف، وفيهما ترفُّع نبيل كالياقوت.

وبشرتها ليست بذلك البياض المَرَضي الذي تسعى إليه نساء العاصمة، بل نضرةٌ ورديّةٌ ممتلئة.

مهابةُ جمالها تُلقي الهيبة بلا غضب، كأنها آيةٌ من نور.

وقد ألف خدمُ القصر محظيّاتٍ يُشبهْن رُبى، فلمّا رأوا هذا الحسن اليوم انكشف أمامهم ضياء.

لا عجب، فهي حسناء مشهورة في العاصمة، وفتنتها لا تُضاهى.

ومنذ جابت ليان الفيافي عاشت بوجهٍ مُقنّع.

فالجمال عندها وِزرٌ، لا سيّما في المعسكر.

وكانت شيختها تقول إنها تُهدر وجهًا حسنًا، تعبث به تنكّرًا طول اليوم.

وسارت لمياء خلف مولاتها، وفي صدرها اعتزاز.

ولمّا بلغت الملكةَ الأمّ انحنت وأدّت التحية.

"مولاتي الملكةَ الأم."

وجلست الملكةُ الأم بوجهٍ حانٍ رقيق.

"لا تتكلّفي يا ملكة، اجلسي."

ثم ذكرت الملكةُ الأم السلطانَ، ونصحتها.

"السلطانُ مشغولٌ بأمر الدولة، وقد يُغفل أمورًا عدة."

"لا تقلقي، يا ملكة."

وكان وجهُ ليان هادئًا، فأجابت: "نعم."

وبعد هنيهةٍ وجدت الملكةُ الأمُّ أن هذه الملكة لا تُبدي وجهًا ضاحكًا، كأنها لا تُحسن الابتسام.

وفي يوم مولدي من قبل، ألم تكن ألطفَ حديثًا.

وليان قلّ أن تبتسم.

وكانت شيختها تداعبها وهي صغيرةٌ فلا ترى في ذلك طِلاوة.

ثم في المعسكر صارت مُقدّمةَ فرسان، ولا بد من هيبة، ولئلا يقترب أحدٌ فيكشف أنّها امرأة، فاعتادت صرامة الوجه ليُمضى الأمر.

"أفي صدرك همٌّ يا ملكة." قالتها الملكةُ الأم صريحًا.

فرفعت ليان طرفها إليها، وأجابت في وقار.

"ليس في صدري شيء."

وسكتت بعد ذلك.

فطوت الملكةُ الأم شفتها.

لا طِلاوة في حديثها، فلا عجب أن السلطان لا يُحبّها، وحتى أنا أجد حديثها فاتِرًا.

فاللواتي أراهنّ من المحظيات يبتسمن أحلى من الشهد، ويُلْطفن الكلام.

وأمّا هذه الملكة فتجيبُ على قدر السؤال، ثم تصمت.

"أزهارُ حديقة القصر قد تفتّحت، هلمي يا ملكةُ تمشّي معي."

"سمعًا."

وظنّت الملكةُ الأم أنه إذا خرجتا لانطلق لسان الملكة.

ولكنّها بقيت على حالها.

ولا جدوى تُرتجى.

وسارتا حتى كادتا تبلغان ميدانَ الخيل السلطاني، فاعتذرت الملكةُ الأم بالرجوع إلى قصر السكينة.

فإذا بجوادٍ هائجٍ ينطلق فجأة، ويعدو جنونًا نحوهما.

فكوّن الحرسُ جدارًا أمامها ليحموها، ثم فرّقهم الجواد.

ولم تتعوّد الملكةُ الأم هذه الأهوال.

والأدهى أنّ الجواد كأنّما عيّنها، فمال عليها، فتخشّبت، واتّسعت عيناها، وشحبت شفتاها.

"احموا مولاتنا، أسرعوا." صاحت المربيةُ خيريةُ.

وكادت الملكةُ الأم تهلك تحت الحوافر، فإذا بظلٍّ يخطف.

وفي الفوضى أحست الملكةُ الأم قوّةً ترفع خصرها وتُجافِيها عن الخطر.

ولمّا نظرت وجدت المنقذةَ هي الملكة.

وكيف لامرأةٍ رقيقةٍ أن تملك هذه القوّة.

ثم إن ضمّتْها أَمْنٌ أشدّ من ضمة الرجال.

وبينما هي ذاهلة أرادت أن تجذب الملكةَ معها إلى المأمن، فإذا بليان تثبُ إلى ظهر الجواد.

وكانت براعةُ ليان في ركوب الخيل لا تُجارى في معسكر الشمال.

وأشدُّ الخيل تحت يدها يلين.

وتناولت لجامه بكلتا يديها، وعضّت بساقيها بطنَه، وحافظت على التوازن مع شدّة اهتزاز الجسد.

ورآها الناسُ تجري بالجواد الهائج بعيدًا، فخافوا عليها.

"يا إلهي، الملكةُ في خطر."

وقالت الملكةُ الأم في قلق: "أدركوا الملكة."

وما هي إلا لمحاتٌ حتى عادت الملكةُ تُسَيّر الجوادَ.

وقد لان الجوادُ ولم يعد يجمح.

فشدّت ليان اللجامَ وأوقفتَه.

وأمالت جسدها فنزلت عن ظهره.

وأسرعت لمياء إليها.

"يا مولاتي، هل أنتِ بخير؟"

فهزّت ليان رأسها، ونظرت إلى الملكةِ الأم. "لا تخافي يا مولاتي، لقد هدأ."

وعادت الملكةُ الأم تنظر إلى الملكة، وفي عينيها إعجابٌ ومودة.

"يا ملكة، على يد من تعلّمتِ ركوب الخيل؟ ما رأيتُ كهذا."

وبقي وجهُ ليان ساكنًا.

"وأنا صغيرةٌ تَعَلّمت خفيةً عن أبي، على يد خالي شيئًا من الفروسية، وكوني أنقذتُ مولاتي هو موضع النفع."

وأقبل ناظرُ الميدان يعدو.

فلمّا رأى الملكةَ قد روّضت الجوادَ اندهش.

"لا تعلمين يا مولاتي، هذا جوادٌ جاء من الأقاليم الغربية، وقد جُنّ وحده، وعجزنا عن تقييده مجتمعين."

وسلّمت ليان زمامَه إلى الناظر، وقالت في تأكيد.

"هذه فرسٌ حامل، فتشتدُّ نزْقًا، والسفرُ من الأقاليم الغربية إلى سلطنة سراج غيّر عليها، فإذا رجعتم فلا تضربوا ولا تَسُبّوا، وزيدوا لها من عشبٍ يُسمّى عشبَ الخماسي، واجعلوا لها مربطًا منفردًا، فتهدأ في ثلاثةِ أيامٍ أو خمسة."

وتعجّب الناظرُ من علمها.

ولمست ليان عنق الفرس وهمست.

"فرسٌ جيّد، يا للخسارة."

مكانُه المراعي الفسيحة، لا هذا الميدان الضيّق في قصر السلطان.

وعلى بُعدٍ قليل.

على منصّة المشاهدة.

وقف رجلٌ بثوبٍ أبيض يشرف على ليان، وأعلن إعجابَه صريحًا. "يا مولاي السلطان، ما أندرَ براعةَ الملكة."

وجاء من خلفه صوتٌ متمهّل يحمل سطوة.

"حيلةٌ صغيرة، هل أعجبتك؟

"لقد أفزعت الفرسُ الملكةَ الأمّ، اقتلوها، ولتُشرف الملكةُ بنفسها على التنفيذ."

استمر في قراءة هذا الكتاب مجانا
امسح الكود لتنزيل التطبيق

أحدث فصل

  • عروس الحرملك... التي قهرت الطاغية   الفصل30

    كانت كتف ليان مثبتة، ويدها مقبوضة.السلطان عاصم رجل في النهاية، وقوته كبيرة. إذا وقعت في يده، فلا تفكري بالفرار. قال: "يا حرس". بأمر واحد منه، اندفع الحرّاس إلى الداخل. قال: "اقبضوا على المغتالة". وإذ هم يوشكون على الإمساك بها، رفعت ليان ركبتها أولًا، مستهدفة أسفل عاصم. انحرف عاصم إلى الجانب، وضاعف ضغط يده القابضة على كتفها. ومبارزة السادة لا تحتمل ذرة تهاون. وما إن خفّ ضغطه قليلًا حتى كسرت ليان قيده، وخطفت نطاق سرواله من عند الخصر… هووف. في لحظة، أدارت الحراسات رؤوسهم غريزيًا لئلا يروا انكشاف السلطان. وفي تلك اللمحة أفرغ عاصم يدًا بسرعة، وأمسك بالسروال مانعًا انزلاقه. لكن وبسبب حفظه لكرامته بهذه الحركة أفلت قبضته تمامًا، ولم يبق إلا يد واحدة تمسك ليان. كما تعجز قبضتان عن أربع أيد، فقبضة تعجز عن يدين أيضًا. وانزلقت ليان كسمكة لزجة مراوغة، ففلتت من تحكم يده الباقية. ثم اغتنمت ذهول الحرّاس وخوفهم من مساس المهابة، وقفزت من نافذة جانبية. كان تسلسلها انسيابيًا كالغمام، ولو ترددت حركة لفشلت في الفرار. أما الحرس الداخلون متأخرًا فلم يفهموا ما جرى، إنما أحسّوا ببرد يجتاح القاع

  • عروس الحرملك... التي قهرت الطاغية   الفصل29

    في منتصف الليل، في قصر النجوى. فشش سهم حاد استقر في إطار باب القاعة. في لحظة، انطلق الحرّاس جميعًا. قالوا: "هناك مغتال". القاعة الداخلية. كان عاصم يرتدي ثوب نوم من الديباج الموشى، وشعره الأسود منسدل كالشلال، يزيد وجهه وسامة فاتنة. قال: "ما الخبر؟" حمل لبيد السهم بكلتا يديه، وعلى رأسه رقعة، وتقدّم بحذر إلى الستارة. قال: "مولاي، هذا ما خلّفه المغتال". مدّ عاصم يده من داخل الستر، وأصابعه طويلة قوية. وتحت ضوء الشموع قرأ ما في الرقعة. مكتوب: "غدًا عند آخر الليل، قصر الشروق، لأجل علاج سمك". ضاقت حدقتا السلطان عاصم فجأة. ثم سحق الرقعة في يده حتى صارت فتاتًا. قال: "ما زالت تجرؤ على المجيء". يبدو أنها عرفت هويته، فأرسلت الرقعة مباشرة إلى قصر النجوى. لم يفهم لبيد المراد. قال في نفسه: "من تكون؟" أيعرف مولاي ذلك المغتال؟ … في مساء اليوم التالي. قصر الشروق. أحاط الحرس الخفي هذا القصر المهجور بطبقات من الطوق، ترقبًا لظهور المغتال. ما إن حان وقت آخر الليل، حتى دفعت باب القاعة امرأة في هيئة وصيفة ودخلت. فحاصروها على الفور. والغريب أن رد فعل المغتالة لم يكن الفرار… نظرت ليان

  • عروس الحرملك... التي قهرت الطاغية   الفصل28

    ظنّت مرجانة أنها أساءت السمع. كيف يمكن للسلطان أن يذهب إلى جنان؟ قال زاهر بعد ذلك. "الأمر يقين، للتو أرسل يقول لا تنتظري، فالسلطان سيتناول العشاء عند جنان." ساور مرجانة ضيق، فانعقد حاجباها قليلًا. لكنها ما لبثت أن قالت في نفسها إنه وإن تعشّى هناك فلن يعطف على جنان قطعًا. لا يجوز أن تربك صفوفها لأمر صغير فتكون أضحوكة لغيرها. اشتهر في القصور أن السلطان قصد جنان فعمّ الذهول. وكانت نهى أشد غضبًا فرمت في الحال صحنًا فكسرته. "منذ متى دخلت جنان القصر؟ وبأي حق تسبقني إلى الحظوة!" حاولت وصيفتها أن تلطف القول. "مولاتي، إنما ذهب السلطان إلى جنان، ويقال إن أباها نال فخر النصر، فلعل السلطان يُظهر سعة فضله." قطّبت نهى جبينها بغتة. "أتُراك ترين أن عمّتي كانت محقّة وأن الملكة هي من ساعدت جنان من وراء الستار؟" أجابت الوصيفة بتحفظ. "مولاتي، الأمر مشكل الحكم فيه." "ولكن الملكة نفسها محظور خروجها أفبيدها مثل هذه القدرة؟" عادت نهى تتردد. لو كان لها ذلك لألحت لنفسها لا لتجعل النفع لجنان. هي لا تصدق أن في الحريم امرأة لا تريد الحظوة. أسعد الناس تلك الليلة جنان. فمنذ زمن وهي في القصر وهذه

  • عروس الحرملك... التي قهرت الطاغية   الفصل27

    كانت جنان بين الدهشة والسرور، فمسحت دموعها سريعًا ونظرت إلى الخارج. ولما رأت ذلك المِصد الذهبي نسيت وجعها كأن جرحها قد اندمل. خمّنت الوصيفة إلى جوارها. "مولاتي، يُقال إن مولاي السلطان بعدما غادر قصر الوفاق قصد قاعة السمو، ولا بد أن مرجانة قالت فيه خيرًا فأتت هذه العطية؛ عليك أن تشكريها." هزّت جنان رأسها بقوة. "نعم، مرجانة أخت صادقة في وُدها لي، بخلاف تلك الملكة." وما إن ذُكرت الملكة حتى عاد الحقد يغلي في صدرها. هذا الثأر ستأخذه لا محالة. … قصر النجوى. القاعة العظمى ساكنة لا صوت فيها. في نصف الليل. … امتدت يد من الداخل فأزاحت ستر السرير بعصبية. تسللت أشعة القمر عبر شقوق الضوء إلى داخل الستر. جلس عاصم هناك ورداؤه الواسع مفتوح يكشف صدرًا ممشوقًا. وضع يده على جبهته يعرك ما بين حاجبيه بضيق. لم يستطع النوم. كان يعيد حديث قصر الوفاق في ذهنه. ليس صحيحًا. لقد همّ آنذاك أن يجلد وصيفات الملكة زجرًا لهن. فكيف انقطع الأمر بلا تتمة. في أي موضع استدرجته الملكة وأدرجته في قولها. منذ ذكرت أبَا جنان وإخوتها مضى معها في الحديث، بل تحققت صحّة ما سمته برسالة الأهل… وفي النهاية لم يع

  • عروس الحرملك... التي قهرت الطاغية   الفصل26

    رفعت ليان رأسها ببطء وعيناها هادئتان كبركة ميتة لا تموّج فيها. "مولاي السلطان، لقد زل لساني من قبل فأسخط المقام، وأنا منذئذ أحاسب نفسي ليلًا ونهارًا بذنوب معلقة، ولست أهلًا لخدمة المقام السلطاني." تلألأت عينا عاصم ببرودة عميقة تحمل خطرًا مكتومًا. "الملكة تعرف قدر نفسها." "هيئوا الموكب، إلى قاعة السمو." … بعد انصراف السلطان بدت لمياء كأنها انهارت تمامًا، فاتكأت مترنحة على حافة الطاولة. "مولاتي، لقد أفزعتِني حتى الموت…" ولما تأكدت أن لا أحد حولهما قالت لمياء بقلق تنصح. "مولاتي، لم يُدنِ السلطان جنان من وصاله، فإن كنتِ تريدين بها كسر انفراد مرجانة فقد أخفقتِ." "بل وأغضبتِ السلطان وزدتِ الشقاق مع مرجانة وجنان؛ أليس في ذلك جعلٌ لوضعنا أسوأ؟" لم ترَ ليان أنها خسرت. قالت بسكينة. "جنان قريبة من مرجانة ومن يقرب من الماء يسبق إلى الارتواء، فلو كان السلطان مائلًا إليها لكان قد آثرها منذ زمن." "آه؟ إذن أنتِ تعلمين أن السلطان لن يدنو من جنان ومع هذا رتبتِ لها مبيت الليلة؟" ثم قالت لمياء وقد خطر لها أمر آخر: "وأنتِ أيضًا تعلمين أنه لا يحب ذلك فأرسلتِها عمدًا إلى قصر النجوى، أليس كذلك؟"

  • عروس الحرملك... التي قهرت الطاغية   الفصل25

    كانت ليان تُقبَض على عنقها، وقد احمّرت ملامحها قليلًا. "هذه كلها مذكورة في رسالة أسرية …" قال السلطان عاصم: " رسالة أسرية؟" ولم يصدق. وأمرها أن تُخرج تلك الرسالة المزعومة. وخارجًا ذُهلت سلامة. من أين أتت تلك الرسالة؟ وما إن استدارت… يا ساتر، أفزعها ذلك! متى عادت لمياء يا ترى؟ ثم ما الذي تحمله في يدها؟ تجاوزت لمياء ذهول سلامة، وأسرعت إلى المخدع. قالت: "يا مولاي، هذه رسالة بعث بها السيد حسام اليوم." أرخى عاصم قبضته وتناولها ليتفحصها بنفسه. وكانت مكتوبة بلهجة أب إلى ابنته. وفيها: "روزان يا ابنتي، قلتِ من قبل إنك تريدين القيام بحق الملكة وأن تعدّي المحظيات أخوات فتُحسني إليهن، فسرّني ذلك. لهذا جمعتُ شيئًا من الأخبار لعلها تعينك…" وكان فيما بعد ذكرٌ لجنان ولغيرها من المحظيات. وأبرز ما فيه مواقيت دخولهن القصر، وصلات أهلهن، وميولهن. ومن سياق الكتاب يُرى حرص الملكة على شأن الحريم. كأنها حقًا تعدّهن أخوات وتريد معرفتهن. لما فرغ السلطان عاصم من القراءة بقي وجهه جليديًا. قال: "نِعْمَ الملكة أنتِ، أحسنتِ الإحاطة بكل شيء." ولم يكن ليُخدع، فأمر بمضاهاة الخط حالًا. وبينما ينتظر

فصول أخرى
استكشاف وقراءة روايات جيدة مجانية
الوصول المجاني إلى عدد كبير من الروايات الجيدة على تطبيق GoodNovel. تنزيل الكتب التي تحبها وقراءتها كلما وأينما أردت
اقرأ الكتب مجانا في التطبيق
امسح الكود للقراءة على التطبيق
DMCA.com Protection Status