في النهاية، أميرة لا ترى إلا مصلحتها. تلطف وجهها فقط لمن ينفعها. وليس لديها صديقة حقيقيّة واحدة، فإذا لم تعد ذات منفعة لهم، ركلها الناس جانبًا.سألت عائشة: "هل أنتقل الآن إلى دار الأيتام؟"أجابت نور: "نعم، أمرت رئيسة التحرير بزيارة المكان، وسنشتري بعض الأغراض ونسجّلها على حساب القناة، كعملٍ خيري. وأظن أنه سيكون هناك تحرّكًا كبيرًا وراء الأمر، قد لا يقتصر المشروع على النشر في الحساب العام فقط، بل سيعرض في أحد البرامج الترفيهية أو حتى على أهم برامج القناة".سألتها عائشة: "أوصلك خبر بهذا؟""لا، لكن رئيسة التحرير سألت أكثر من مرة، فاستشففت الأمر، علينا أن ننتظر بضعة أيام لنتأكد من صحَّة الموضوع." فهمت نور مقصد الرئيسة، فخمَّنت الأمر لاشعوريًّا فحسب.وقد يكون تخمينها خاطئًا.رأت نور أنّ رئيسة التحرير سألت أكثر من مرة، فاستبعدت أن يكون الأمر مجرد تقرير إخباري.كان الأمر كما لو أن مشروع دار الأيتام تم إدراجه في باب العمل الخيري.إن أُدرج في برامج القناة، وكان الجمهور كثير، وصيغ التقرير بصيغة مؤثرة، حُفظ للقناة صيت حسن.التنافس مشتعلٌ هذه الأيام بين برامج الترفيه.وإن دُمج البعد الاجتماعي في
نظرت أميرة إلى نور، وما زال الغيظ يغلي في صدرها، لكنها بحاجة إلى مساعدتها في إنجاز المقابلة الحصرية مع سمير.وفوق ذلك، إن نجحت في ترتيب هذه المقابلة، ستكون استردّت كرامتها التي أُهينت من قبل.بعد أن غادرت مريم، تقدّمت أميرة ثانيةً إلى مكتب نور، قالت وقد هدأت نبرتها قليلًا: "نور، ما رأيك فيما قلتُه لكِ أمس؟"ردّت نور من غير أن ترفع نظرها إليها: "أظنّ أني أجبتكِ أمس بالفعل".غاظها الردّ حتى كادت أن تشتمها، لكنها تماسكت، فهي لا تعطي وجهًا لمن لا يحترمها.لكن نور تختلف، فما إن تُنهي هذا المشروع حتى تُعلّمها درسًا قاسيًا.واصلت أميرة القول: "ما رأيكِ في أن تأتي معي، وإن نجحنا في إقناع سمير، اقتسمنا الفضل معًا، ألا ترغبين في التقدّم؟ من ذا الذي يرضى أن يظلّ يكتب مقالات في الحساب العام؟ أمنحكِ هذه الفرصة، إن سرتِ معي، أضمن لكِ أن تصلي إلى مكاني هذا خلال عام واحد!"اكتفت نور بابتسامةٍ عابرة.مكان العمل قاسٍ.وما يُقال بلا دليل، ينقلب في النهاية إلى مجرّد نكاتٍ ساخرة.رفعت رأسها وقالت: "لقد تنازلتُ لكِ عن المشروع كله، فبأيّ منطق أرافقك إلى المقابلة؟ ألم تفكِّري في هذا؟"نفد صبر أميرة، فقالت بوق
استفاقت نور، فلم تجد في الغرفة أحدًا.غير أن عينيها بقيتا رطبتين.تذكّرت شجارها مع سمير ليلة أمس، ولمست الموضع بجانبها، لم يرقد فيه أحد.يبدو أنّ سمير رحل منذ البارحة.نهضت نور مسرعة إلى الخزانة، تتحقّق من ملابسه، فوجدتها لا تزال في مكانها، ما يعني أنّه سيبقى متشبّثًا بها.هبطت من جديد معنوياتها التي كانت قد ارتفعت قليلًا.اغتسلت في الحمام، ثم خرجت تستعدّ للذهاب إلى العمل.ولمّا بلغت مقرّ محطّة التلفاز، سمعت أميرة تصيح: "تنحّي عن طريقي! أعملكِ أهمّ من عملي؟"كانت اليوم وكأنّها ابتلعت متفجرات.قالت لها الزميلةُ محتجًّة: "ما بكِ اليوم يا أميرة؟ حتى لو كنتِ في مزاجٍ سيئ، لا يجوز أن تُفرغي غضبك على الآخرين."لكن لطالما كانت أميرة بهذا الشكل، تتضايق من كل الناس إذا ساء مزاجها، فحدّقت في زميلتها وقالت: "لستُ غاضبة، لكنّك وقفتَ في طريقي! مقابلتي الحصرية أهمّ، أتظنين أن بإمكانك تحمل تبعات تعطيلها؟""من لا يعلم أنّ مقابلتك مع سمير لم تُحسم بعد؟ لو كنتِ قد حسمتها فعلًا، أما كنتِ لتُخبري المحطة بأسرها بمدى براعتك بدلًا من أن تثوري هنا؟"تقطّب جبين أميرة، فازداد غضبها وعلت نبرتها: "لم أُثبّت الموع
الرجال كلُّهم هكذا، لا بدّ أن تراودهم نزعةٌ إلى التمرّد، فما يختاره لهم الآخرون يعرضون عنه.لكنّه الآن غيّر رأيه.أولى سمير اهتمامًا شديدًا بنور!قال سمير بصوتٍ جليديّ: "مستحيل أن يكون السبب الثاني! قلبها متعلّقٌ بغيري، بل صار لها طفل!"صُعق عوَّاد لوهلة.طفل؟ هذا مستحيل."أأنت واثق؟" سأل ثانيةً.أجاب سمير بنبرةٍ منخفضة: "هل كنت سأقول لك شيئًا إن لم أكن واثقًا؟"تردّد عوَّاد قليلًا ثم عاد يسأل: "أأنت متأكد أنّ الطفل ليس ابنك؟"لم يسمع يومًا أنّ نور تربطها علاقة وثيقة برجلٍ آخر.أكّد سمير بحزم: "لم يحدث بيني وبين نور أي علاقة!"استنتج عوَّاد وهو يضحك: "والله لا أعجب بأحدٍ إلّا بك! زوجةٌ صغيرة جميلة إلى هذا الحدّ إلى جانبك، وتستطيع أن تتحكَّم بنفسك! إن لم تُخنك وأنت بهذا الشكل، فمن ستخون؟"اسودّ وجه سمير وقال: "اغرب عن وجهي!"وأغلق الهاتف مباشرةً. لئلّا يزيده غيظًا.أنهى سيجارته الأخيرة، لكنه لم يطفئها.رمى نظرةً من خلال نافذة السيارة نحو الطابق حيث تسكن نور، أنوارها لم تنطفئ بعد، كانت تبكي للتو حين دخلت غرفتها.اشتدّ اضطراب سمير، كأنّ أسرابًا من النمل تنهش صدره، فلا سبيل إلى الهدوء.ع
ركضت نور إلى الغرفة، وأغلقت الباب خلفها، حاجبةً ضجيج الخارج.خيم السكون على الصالة، وجلس سمير على الكرسي، عاجزًا عن استيعاب ما حدث.لم يفهمها قطّ، لماذا تُصرّ على الاحتفاظ بهذا الطفل؟ما الذي أعجبها في ذلك الرجل؟لم يعرف حتى بحملها، ولا أنها تسكن في هذه الشقّة الضيقة، ولم يسألها يومًا عن حالها.وبرغم ذلك، لسعته مرارة الخسارة.أيًّا كان ما يفعله، فلن ترضى به نور.أعدَّ لها حساء الدجاج بنفسه، فاتهمته بتسميمها ولم تتذوقه.نظر إلى يده المحروقة، لم يجد لنفسه وصفًا سوى أنه يذلّ نفسه.يحاول استرضاء امرأة لا قلب لها.تجمدت ملامحه، ونهض مغادرًا.كان صلاح ينتظره في الخارج، تفاجأ لرؤيته، إذ كان يتوق لأن يكون مع نور، فكيف له أن يرحل الآن؟سأله بغير تأكد: "سيد سمير، ألن تلحق بالسيدة؟"أجاب بوجه متجهم وصوت مبحوح: "ألحق بها لأذل نفسي؟"اندفع خارجًا.احتار صلاح، إذ كان كل شيء هادئًا قبل قليل.غاب عنهما قليلًا، فانقلبت الأجواء.لحق به على الفور.جلس سمير في السيارة، وأغلق الباب بعنف، وفكّ ربطة عنقه بغضب، وفتح زرين من قميصه.أشعل سيجارة وسحب منها نفسًا طويلًا ليكبح توتره، لكنه ازداد غموضًا.رنّ هاتفه في
قطّب سمير حاجبيه وقال ببرود: "ألا يمكن أن تبقى أمورنا بعيدًا عن الآخرين؟"قهقهت نور ساخرًا: "تتورَّط مع شهد وتُخبرني أنها من الآخرين؟ سمير، لا أفهمك، أنا أُساعدك في أن تكون معها، ماذا تريد أكثر؟"أخرج تذكرتي الطيران اللتين تركتهما نور، وقال: "تقصدين هاتين التذكرتين؟"كانت قد حجزت له ولِشهد إلى فرنسا، رغم أنها ادَّعت أنها ذاهبة معه.كأنها تدفع بزوجها إلى أحضان امرأة أخرى.نظرت نور إلى البطاقتين قائلة: "لكنك لم تسافر."مزّقها أمام عينيها وألقاها على الطاولة، وعيناه الباردتان تخترقانها: "أنتِ لا تُساعدينني في أن أكون معها، أنتِ تساعدين نفسكِ وتُمهدين لهروبك بالطفل، أليس كذلك؟"ثم رمق أرجاء شقتها الصغيرة، والتي تحتوي رغم ذلك على كل شيءٍ كما قالت، وأطرق بسخرية: "نور، ما الذي حصلتِ عليه بعد أن تركتني؟ شقة بحجم كف، وطفل لا يجرؤ أبوه حتى على أن يراكِ؟"أحكم قبضته حتى برزت عروقه، وقال مُحاولًا كبح غضبه: "منذ أن تركتِني، لم يأتِ ذلك الرجل ليراكِ، أليس كذلك؟"أدارت وجهها صامتة."أنا أعرف الجواب، حتى لو لم تقولي، لم يبحث عنكِ أبدًا!" زمجر وهو يصرّ على أسنانه.أرادت تجنُّب هذا الموضوع، وقالت: "ما د