ما إن ردّ سمير عليها حتى غمرتها فرحة خفية، فدفعت حارس الأمن وتقدّمت نحوه قائلة: "محطة تلفاز النجوم، أنا من محطة تلفاز النجوم! هذه هويتي، يمكنك التحقق منها، فأنا من محطة رسمية، وأجريت مقابلات مع شخصيات شهيرة كثيرة، سيد سمير، إن قبلت مقابلتي فسأضمن لك صيتًا واسعًا وثروة توازيه..."وظلّت أميرة تعدّد إنجازاتها، وتصف كيف ستعود مقابلتها بالنفع عليه. بينما كان اهتمام سمير منصبًّا على اسم القناة.فهو، إن لم يخطئ، يذكر أن نور تعمل في هذه المحطة نفسها.ولم يفهم حتى الآن لماذا اختارت نور هذه الوظيفة، إذ بدت كمن يبدأ من الصفر من جديد.لقد قضت سنوات إلى جانبه، وصعدت إلى مكانة رفيعة، تملك علاقات واسعة وموارد غنية، فلا حاجة بها للبقاء في محطة تلفزيونية.كان في الحقيقة يخشى عليها أن تتعرض للظلم هناك.فهي لم تعد تلك الفتاة البريئة التي عرفها في البدايات.فكَّر وهو ينظر إلى أميرة، إن كان سيتنمَّر أحدٌ عليها هناك.على الأقلّ لم يكن ليجرؤ أحد على إيذائها إن كانت بجواره.أنهت أميرة تقديمها لنفسها وحديثها الطويل ولم تسمع منه ردًا، فنادته: "سيد سمير".فعاد سمير إلى واقعه، ونظر إليها ببرود وقال: "أتوكَّل جمي
تناولت أميرة إبريق الماء الساخن منها، وقالت مبتسمة: "لا شك أنني سأترقّى ويزداد راتبي إن نجحت هذه المرّة، بل وصلتني أخبار من الداخل أن رئيسة التحرير سيتم نقلها، وبما أنني صاحبة أفضل النتائج، فمقعد رئيسة التحرير سيكون لي، وعندها سأصنع منكنّ نسخة أخرى منّي، ولن أنسى فضلكنّ!""هذا رائع، يجب أن نشكركِ يا أخت أميرة!"غمرهما السرور، فمستقبلهما كله مرهون بصعود أميرة إلى كرسي رئيسة التحرير.أكثرت أميرة هذه المرة من الاتصال بشركة القزعلي.بالأسباب نفسها القديمة.لم ترد أن تظلّ تنتظر حظها بلا نتيجة.فبحسب خبرتها، لم يكن أمامها سوى السعي بنفسها.قادَت السيارة أربع ساعات حتى بلغت بوابة برج شركة القزعلي.ورشت حارس البوابة بالمال، وسألته مرارًا: "أمتأكدٌ أنّ سمير القزعلي سيخرج عند الخامسة مساءً من هذا الباب؟""أنا متأكد. السيد سمير عادةً يستخدم مرآب السيارات السفلي، لكن إن كان مستعجلًا، يأمر بإيقاف السيارة أمام الباب لينزل مباشرة إلى هنا". وأكمل يقول: "والسيد سيمر يغادر عند الخامسة منذ فترة، يبدو أن لديه أمورًا مهمّة بالخارج، وهذه فرصتكِ الذهبية لرؤيته!""أي أمور مهمّة؟" سألته أميرة بفضول، فقد يصبح ه
أجابت نور بهدوء: "حسنًا".لمّا رأت أميرة عدم تفاعلها، أرادت أن تضيف شيئًا لكنها اعتبرت ذلك إطراءً مبالغًا فيه لزميلة جديدة. فاستردت نظراتها وحافظت على كبريائها، حملت الملف وغادرت بخطى متعجرفة تصطكّ معها كعب حذائها العالي.تابعت عائشة أميرة وهي تغادر، ثم أخرجت لسانها ساخرة.سألتها نور بعد أن لاحظت تصرفها: "ما الذي فعلته أميرة لكِ حتى تكرهيها هكذا؟"أجابت عائشة: "أشياء كثيرة، ولم تزعجني أنا وحدي، بل معظمنا هنا، لكن لا أحد يجرؤ على الكلام، فهي الأفضل أداءً في المحطة".قالت نور: "نجاحها له أسبابه، فهي تعرف كيف تنافس وتخطف الفرص!"لكن عائشة قالت لنور: "ليس الأمر كذلك فقط، هي تغتصب الفرص بالقوة. كان لديّ مشروع جيد، لو أتيحت لي الفرصة لإنجازه، ربما ما كنت لأكون الآن منهكة في كتابة التقارير. حتى لو لم أنجح، على الأقل كنت أستحق المحاولة، لكنها سلبتني هذه الفرصة. هي لا تمنح الوافدين الجدد أي مجال للظهور، تحلم بأن تصبح نجمة المحطة الدائمة، بل حتى رئيسة التحرير، وربما تسعى لأعلى من ذلك".استمعت نور، فأدركت من حديث عائشة حجم طموح أميرة."فهمت نور من عائشة الكثير عن أميرة، قالت: "بهذا الشكل، ستكسب
لم يمضِ على وجود نور في محطة التلفاز سوى بضعة أيام، وقد حفظت أسماء زملائها جميعًا، لكن لم تتح لها فرصة التعامل مع الجميع.مثلاً، أميرة هذه التي تقف أمامها، لم يسبق أن تبادلت معها كلمة.قالت نور وهي تلتقط الأوراق: "صحيح، المهمة أُسندت إليّ".لكن أميرة أبدت امتعاضها قائلة: "لماذا أسندت رئيسة التحرير مثل هذه المهمة إليك؟ أنت لم يمضِ على وجودك هنا سوى بضعة أيام، ما الذي يجعلكِ مؤهلة لها؟"شعرت نور بالحدّة في كلامها، وقالت: "أنا أيضًا لست واثقة من قدرتي على إنجازها". كانت مثل هذه المواقف مألوفة لديها؛ ربما كانت هذه المهمة فرصة ثمينة، فرمقتها بنظرة وقالت: "هل ترغبين أنتِ بالذهاب بدلًا عني؟"لم ترد أميرة. بل همهمت بتكبُّر وغادرت إلى مكتب رئيسة التحرير، وكأن التحدث مع نور يقلل من شأنها.لم تكترث نور لغطرستها، لو أخذت المهمة بموافقة رئيسة التحرير، فسيكون ذلك أفضل لها.التنافس في المحطة شديد، وكثيرون يمضون عشر سنوات دون أن يحققوا تقدمًا.لكن نور قد اعتادت على مثل هذه البيئات؛ تلك المقابلة مع سمير ليست بالضرورة فرصتها الذهبية.وهي تدرك أن مريم لم تخترها لكفاءتها، بل لأنها كانت قريبة من سمير، ما
توقفت نور لثوانٍ، ثم رفعت رأسها نحو مريم وقالت: "تريدين مني أن أجري مقابلة مع رئيس مجموعة القزعلي؟"أطبقت مريم على يديها، ونهضت تقول بخفة: "صحيح، أهناك مشكلة؟ ليست كل واحدة يمكنها أن تحظى بفرصة مقابلة سمير القزعلي، وأنتِ الأنسب لذلك".أغلقت نور الملف، وقالت: "أوضحت في السيرة الذاتية التي قدمتها أنني عملت سابقًا في شركة القزعلي، هل يعني هذا أنك تريدني أن أعود إلى هناك؟"قدومها إلى محطة التلفاز كان هروبًا من شركة القزعلي بلا وداع. والخلاف بينها وبين سمير القزعلي عميق، عودتها ستكون أشبه بصفعةٍ لنفسها. وتأكيدًا على كلماته بأنها ستندم.مريم لم تكترث، إذ لم تكن تعرف خلفية علاقتها به، وقالت: "ولهذا السبب تحديدًا أسندت المهمة إليكِ، وجود معرفة سابقة سيسهّل الأمر".وضعت نور الملف على المكتب وقالت: "يا رئيسة التحرير، أنا أرفض هذه المهمة".العودة إليه، حتى وإن كانت بهويةٍ مختلفة، أمر لا ترغب به. فهي لم تعد تريد أي تشابك معه بأي شكلٍ من الأشكال. والأهم أن سمير لن يُظهر لها وجهًا حسنًا، ما يجعل الأمر أشبه بعقدةٍ مستحيلة.قالت مريم: "ألم أذكر منذ قليل أن عليك مغادرة دائرة الراحة؟ مقابلة سمير الق
حتى إنّها خدَّرته.لم يطلب منها سوى أن تُجهض الطفل، ومع ذلك رفضت!تريد إنجاب طفل رجلٍ آخر.كيف تجرؤ!وكيف تجرؤ أن تقول له مثل هذا الكلام!أفلت يديها أخيرًا، لم يجبرها أكثر، لكن نظرته بردت، مفعمة بخيبة الأمل: "ستندمين يا نور!" كلماتٌ حاسمة لا تحتمل النقاش.ثم رحل، غير عابئٍ بنظراتها الحزينة. تلك النظرات التي تلمع بالدموع، انزلقت دمعة من عينيها، ومعها عنادها الذي يرفض الانكسار أمامه.غادر سمير دون تردّد، لم يلتفت، حتى توارى عن ناظريها.جثت نور ببطء، تتأمل يدها التي احمرّت من شدّة قبضته، أحكمت قبضتها، وأسدلت عينيها المثقلتين بمرارةٍ لا توصف.هي وحيدة.لكن هذه الوحدة لم تكن ما أرادتها منذ البداية. بل جاءت بعد سنواتٍ من الخيبات، حتى رأت في الانعزال راحة، وفي إنهاء هذا الزواج خلاصًا.كانت تظن أن أيامها ستغدو أسهل، أكثر حرية، بدون حبٍ بلا جدوى، لكن سمير ظهر أمامها مجددًا.ليُرجعها إلى تلك الأيام الصعبة.نعم، لم تعد تريد حياةً تتأرجح فيها بين الجليد والنار.كان اختيارها صحيحًا. ولن تندم.مسحت دموعًا لم يكن لها أن تُذرف، وقفت، وحشدت ما تبقى من قوتها لترسم ابتسامةً واهية.حياتها لن تسوء، بل