"ماذا... ماذا قلتِ؟""يبدو أنّ الطفل قد اختنق لحظة ولادته، سيدتي، لا تحزني، فطفلٌ في الشهر السادس حتى لو وُلِد بسلام ففرص نجاته ضئيلة جدًا، الأهم الآن هو صحتكِ، ما زلتِ شابة، وإن فقدتِ هذا الطفل، فبإمكانكِ أن تُنجي أطفالًا آخرين لاحقًا.""لا، لا، لا أُصدّق أن طفلي قد رحل هكذا، أنا حملتُ به بكل مشقة طوال هذه الأشهر... أنا...""سيدتي، القتلة سيصلون في أي لحظة، علينا أن نغادر فورًا.""لا، لا يمكن! لن أترك طفلي خلفي وأهرب."لكن الطبيبة أمل لم تكن تملك رفاهية التردد، فالمهمّة التي أُوكلت إليها هي حماية سارة، ثم يأتي الطفل في المرتبة التالية.إن كان هناك خطر على الاثنين في آنٍ واحد، فالأولوية دائمًا لسارة.قالت بحزم: "أعتذر منكِ، سيدتي."ثم أسرعت بحمل سارة على ظهرها، وسارة تنظر إلى الطفلين الراقدين فوق قطعة من الثياب دون حراك، بينما تختلط دموعها الغزيرة بماء المطر، تنهمر بجنون."لاااا، طفلاي!"كانت الطبيبة أمل تتسلق الجرف بصعوبة بالغة وهي تحمل سارة على ظهرها، ورغم أنها كانت مدرّبة تدريبًا عسكريًا عاليًا وتمتلك قوة جسدية تفوق أغلب الناس.إلا أن هذا لم يخفف عنها العبء الثقيل.المطر يهطل بشراسة
ما إن أنهت سارة كلماتها حتى ألقت بالهاتف جانبًا، متعاونةً مع الطبيبة أمل قدر استطاعتها.قالت الطبيبة بقلق، "سيدتي، في مثل هذه الظروف لا أستطيع إجراء عملية جراحية لكِ، ليس أمامنا سوى الاعتماد على نفسكِ، لا بد أن تُنجبي الطفلين في أسرع وقت، وإلا فسيختنقان ويموتان، افتحي عينيكِ، عنق الرحم قد تفتّح، عليكِ الدفع بقوة الآن!"شعرت سارة برأسي الجنينين يندفعان إلى الأسفل، وكأن فقدان السائل الأمنيوسي جعل الحركة داخلهما عشوائية ومضطربة، كأن الطفلين قد فقدا توازنهما، فصارا يتخبطان في أحشائها دون نظام.كانا يشبهان سمكتين جُرفتَا إلى الشاطئ، تكافحان أنفاسهما الأخيرة، كما تفعل هي تمامًا.همست، بصوت مرتجف يقطر رجاءً، "أحبّائي، لا بد أن تصمدوا، والدكم سيأتي لأجلكم حالًا، كل شيء سيكون بخير، أقسم أن الأمور ستعود إلى نصابها، أمّكم هنا، أمّكم لن تتخلى عنكم، لذا أنتما أيضًا لا تتخليا عني..."ورغم أنها خاضت هذه التجربة من قبل، إلا أنّ الألم حين يتكرر لا يُصبح أخف، بل أعمق، والخوف لا ينقص بل يتضخم.حتى غدا كل ذرة في جسدها ترتجف، لا تدري إن كان ذلك من الهلع أم من شدة البرد.ما من امرأة وضعت طفلها في ظروف أقسى،
حين سمعت السيدة سارة تلك الكلمات، حتى الطبيبة أمل التي كانت خلفها أصابها الذعر، قالت بصوت مرتعش: "سيدتي، لا تُفزعينِي من فضلكِ".ردّت عليها السيدة سارة بضعف: "لقد أنجبتُ في البحر من قبل، والإحساس الآن... يشبه ما شعرتُ به وقتها تمامًا".قالت الطبيبة أمل وهي تحاول أن تبقي صوتها ثابتًا: "سيدتي، تمسكي بي جيدًا".لم يجرؤ عز على التراخي لحظة واحدة، وسارع بسحب السيدة سارة عبر الماء حتى وصل بها إلى الشاطئ.وبجهد كبير جرّ جسدها المبلل وأخرجه من البحر، ثم أخرج من جيبه مصباح الطوارئ.كان جسد السيدة سارة مشبعًا بالماء، لم يعد يُعرف إن كان ماء البحر أم ماء السائل الأمنيوسي، فتقدّمت الطبيبة أمل بوجه متجهم وقالت بجدية: "دعيني أرى".وما إن كشفت عن موضع الألم حتى تدفق مع السائل الدموي، فتغيّر وجه الطبيبة أمل كليًّا وقالت: "الوضع خطر، السائل الأمنيوسي قد انكسر، وهناك دم أيضًا".إن انبثاق السائل الأمنيوسي وحده يعني أن الطفل وُلد قبل أوانه، لكن وجود الدم مع ذلك يشير إلى حالة معقدة.فربما انفجرت الشعيرات الدموية عند حافة الغشاء الأمنيوسي، أو – لا قدر الله – يكون الدم مصدره الطفل ذاته، وفي تلك الحالة، تكون
هذا الأمر كانت سارة تعيه جيدًا، لكنها لم تكن قادرة على تهدئة نفسها بعد ما مرت به للتو.كانت الطبيبة أمل تربت على ظهرها لتهدئتها بينما تهمس بلطف: "لا تقلقي، السيد رشيد قد تم نقله بالفعل، وهو بخير، وأنتِ أيضًا بخير، وهذه نعمة لا تُقدّر بثمن".نعمة؟لكن قبل لحظات فقط، كانت قد فقدت صديقةً كانت دائمًا بجانبها.كانت السيارة تنطلق بسرعة كبيرة، ومثل هذا السرعة كانت كافية للوصول إلى الطريق الدائري خلال بضع دقائق فقط.انهمر المطر بغزارة، وانهمكت ماسحات الزجاج الأمامية في الحركة، ومع ذلك لم تستطع مواكبة سيل المطر المتسارع.الضباب كان كثيفًا في الجبال، ومع الأمطار الغزيرة والرياح العاصفة، أصبحت القيادة في هذه الظروف القاسية مغامرة محفوفة بالخطر.تشنجت قلوب الجميع، فقد كان الطفلان في رحمها قد بدآ في التململ منذ وقت، يركلان ويثوران في داخلها.وضعت سارة يدها مرارًا وتكرارًا على بطنها لتطمين الطفلين، وتمتمت بصوت مرتجف باكٍ: "يا صغاري، تصرّفوا بلُطف، لا تقلقوا، أنا هنا، أنا معكم، سأحميكم مهما حدث".ولدهشتها، كأن الطفلين قد فهما ما تقول، فهدآ شيئًا فشيئًا، وسكن بطنها المتورم بعد فوضى مضنية.تنفّست الطبي
صرخاتها الموجعة ترددت في أرجاء الفيلا بأكملها، كانت صرخات لا تُحتمل، تحمل وجعًا يعصر القلب، وكان عز قد تخلّص لتوه من الرجل الذي خرج من غرفة سارة مسرعًا، لكنه، رغم استعجاله، جاء متأخرًا بخطوة.رأى بعينيه كيف اندفعت الدماء من صدر فاتن، فتوقف قلبه لحظة، وشعر بتنميل يسري في أوصاله.لكنّه كان رجلًا مدرّبًا، اعتاد أن يتمالك نفسه حتى وإن رأى أحبّ الناس إليه يسقط أمام عينيه، فالخطر لا يمنحه رفاهية التوقّف.وحين رأى ذلك الرجل يرتدي سترة واقية من الرصاص ولم يُصب بأذى، اندفع عز نحوه بجسده، وبدأت معركة بالأيدي بينه وبين خصمه، كانت أشبه بصراع حتى الموت.أما سارة، فقد أنزلت السلاح من يدها، وهي في حالة من الذهول التام، رأسها ممتلئ بالضجيج، وعيناها لا تريان سوى لون الدم القاني.جسد فاتن انهار عند قدميها، ودماؤها راحت تغمر السوار الفضي على معصم سارة، ذاك السوار الذي كانت قد أثنت على شكله يومًا.رأس الفأر الصغير الذي تزيّنه، غرق بالدماء، وسقط معها ليبقى راقدًا على الأرض إلى الأبد.جلست سارة على ركبتيها، الدموع تنهمر من عينيها بلا توقّف، ومدّت يدها تحاول أن تسد بها الجرح، لكن الدم لم يتوقف، كان يسيل بلا
كان هناك من يركض خلفها، وعلى الرغم من أن ذاك الشخص كان يرتدي بذلة مضادة للماء ونظارات واقية لا يظهر منها سوى جزء من ذقنه، فإن سارة عرفت على الفور من هو.إنه كريم!في تلك اللحظة، كم تمنت أن تسأله لماذا يفعل هذا؟ من هو حقًا؟لكن قبل أن تنطق، رفَع الرجل سلاحه مصوّبًا إياه مباشرة نحوها، دون أية كلمات زائدة، ودون أي مقدمات، لقد جاء ليقتلها!في تلك اللحظة، لم يكن في ملامحه أثر لما اعتادته منه، بدا كأنما خرج للتو من جحيمٍ سحيق، كأنه الموت نفسه.جسده بأكمله كان مبللًا بالمطر، والماء يسيل من على بدلته الملساء ليغمر ببطء السجاد الصوفي في الممر.وفي اللحظة التي ضغط فيها على الزناد، كانت فاتن قد ألقت بنفسها أمام سارة من دون أن تفكر!سمعت سارة صوتًا مكتومًا لأنينٍ مؤلم تردّد في أذنيها، وفي عينيها ارتسم مشهد الدماء المتطايرة من جسد فاتن، تلا ذلك سقوط جسدها على الأرض أمامها بثقلٍ بطيء.صرخت بصوت مذعور: "فاتن!!"لكن الرجل الذي أطلق النار لم يتوقف، بل بدأ يتقدّم نحوها بخطى ثابتة.كما لو أن ما أطلق عليه النار لم يكن إنسانًا، بل مجرد قطة أو كلب!ولكنها كانت فاتن! تلك التي أحبّته لسنواتٍ طويلة، والتي لم ت