Share

الفصل4

Author: ظل الغيم الماطر
الطاغية قادم، فلم تجد ليان إلا أن تدع لمياء تعيد لفة الشعر، غير أن يد لمياء ارتجفت قليلًا، ولعلها خافت من الطاغية الذي يوشك أن يصل.

وبارتجاف يدها لا بد أن تخطئ.

وحين انتزعت الشعرة الثالثة آلمت ليان، فلم تعد تحتمل وقالت ببرود:

"تراجعي، سأقوم بنفسي." فهي تتقن فن التنكر، وإتقان لفات الشعر المختلفة من لوازمه.

ثم أعادت لفة الشعر إلى حالها في لمحات، فهال ذلك لمياء.

"مولاتي، ما أبرع يديك!"

لكن ما إن تجهزتا لاستقبال السلطان، حتى جاء من خارج الغرفة من ينقل رسالة.

"يا مولاتي، ألمّت بالمحظية مرجانة نوبة صداع، وقد مضى السلطان إلى قاعة السمو."

فتحت لمياء فمها، يغلي فيها الغضب ولا تجرؤ على الكلام.

ولابد أن المحظية مرجانة تتصنع، فما بال نوبة الصداع تأتي في هذا التوقيت الدقيق.

لا شك أنها ما إن رأت السلطان يعود إلى القصر حتى استدعته إليها.

وما إن سمعت ليان اسم المحظية حتى تذكرت أختها روزان.

روزان قتلت شر قتلة، وهذا ثأر لا بد أن يستوفى.

غير أنه لا يغلب من عرف نفسه وخصمه.

والمحظية مرجانة في ذروة الحظوة، فلا بد أن حولها حراسًا مهرة.

فلا يسوغ لها أن تتعجل في الضرب.

قصر السكينة.

كانت الملكة الأم تدير مسبحتها، ولا تكاد تكبح ما في صدرها من غضب.

وسألت من حولها معاتبة:

"اليوم ليلة الزفاف، وقد جعل السلطان الأمير سليم ينوب عنه في المراسم! أما كان فيكم من يعلم بهذا قبل وقوعه!"

طأطأ خدم القصر رؤوسهم أمامها.

"لا نعلم."

السلطان يفعل ما يشاء، والملكة الأم لا حيلة لها عليه.

لكن الناس سيظنون أنها أساءت تربية ابن القصر.

وبدت على الملكة الأم أمارات الأسى، كأن في نفسها من المظالم شيء كثير.

"وإن لم أكن والدته، فقد ربيته بكل ما أملك من عناية، فكيف أنشأت خصومة بيني وبينه…"

فلما رأى الخدم ذلك مالوا إلى جهة الملكة الأم، وعدوا السلطان عاقًا.

وزاد النار اشتعالًا أن جاء خادم بخبر.

"مولاتي الملكة الأم، لقد عاد السلطان إلى القصر، لكنه ذهب إلى قاعة السمو."

"سخف!" وضربت الملكة الأم منضدة الشاي غيظًا.

تلك الحقيرة مرجانة، أتجرؤ في مثل هذا اليوم على إثارة القلاقل، لقد تجاوزها الغنج حتى جهلت قدرها!

وروزان أيضًا، ابنة آل الرياشي، أليس عندها أدنى حيلة، أتترك للناس أن يدوسوا رأسها؟

كنت أرجو أن تكبح الملكة مرجانة، فإذا هي الأخرى لا طائل منها.

ولم تكن الملكة الأم وحدها على هذا الرأي، بل شاركتها المحظيات.

واجتمعت بضع محظيات متفاهمات يتداولن الحديث.

"إن كانت لا تمسك السلطان ليلة الزفاف، فهي خاسرة أمام المحظية مرجانة لا محالة."

وشعرت محظية بثوب أخضر بالمواساة وقالت: "الملكة مسكينة أيضًا. يا ربيعة اليمامي، هيئي لي غدًا هذه مروحة اليشم لأهديها إلى مولاتنا."

"سمعًا، مولاتي."

وتنهد أخرى في المجلس وقالت: "المحظية مرجانة أشدهن شبهًا بربى، فلها الحظوة. لو كانت الملكة عاقلة لاتبعَت هوى السلطان ولم تثر الخصام…"

وما كادت تتم كلامها حتى ورد خادم برسالة.

"يا مولاتي، يقال إن الملكة ذهبت إلى قاعة السمو!"

فتبادل الحاضرات النظرات، ثم هززْن رؤوسهن.

"ما فعلته الملكة غير لائق."

"بل شديد السوء! إن لم تصبر فسيضجر السلطان."

"وإن احتدم الأمر مال السلطان إلى المحظية مرجانة، فلم التعجل؟"

وكن يرجون ملكة رشيدة كالملكات اللواتي قدمتهن عائلة الرياشي، تضبط الحريم على وفاق، وتتعاون المحظيات على خدمة السلطان، اتقاء لصراع قاتل.

وأما الآن، فالرجاء بهذه الملكة قليل.

وما زالت المحظية مرجانة لم تكشف عن أقوى حيلها حتى قد عجزت هذه الملكة.

خارج قاعة السمو.

كانت ليان ترتدي ثوب العرس، وعلى رأسها تاج الطير رمز مكانتها.

والملكة التي أفسدت محظية ليلتها، لا يرحمها خدم القصر بل يزدرونها.

أن تهمل في مخدعها مهانة كافية، فكيف تجد وجهًا للحضور إلى هنا؟

فظن حارس القاعة أنها جاءت تستدر السلطان ليعود إلى المخدع، ونطق قبل أن تتكلم.

"مولاتي الملكة، قد أمر السلطان أن الطبيب الملكي يعالج المحظية مرجانة في الداخل، ولا يأذن لأحد أن يعكر الأمر. فاعذرينا لا نستطيع الإبلاغ عنك."

وعندها نبهتها مدبرة المخدع سلامة البصري.

"يا مولاتي، لا طائل. كل أمور الحريم تقدم فيها المحظية مرجانة. إن طلبت رؤية السلطان الآن فلن…"

وتحت ضوء القمر بدا خال الزينة في جبين ليان فاتنًا، وحدقت بطرف عينها فتلألأت نظرة خفية.

ثم ردت بهدوء.

"ومن قال إني جئت لأرى السلطان؟"

وسكت الحاضرون.

فلأي شيء جاءت؟

لتتفرج؟ لترى مبلغ محبة السلطان للمحظية؟

وأومأت ليان بطرف عينها، فتقدمت وصيفتها لمياء وأخرجت صندوقًا خشبيًا وسلمته لحارس الباب.

"سمعت أن المحظية مرجانة تعاني صداعًا، وهذا دواء جاء به أخي من الثغر، نفعه للصداع مجرب، فلتجربه المحظية."

وتبادلوا النظرات.

أهي الملكة لمجرد أن تهدي دواء؟

أي كرم هذا، لا شك أنها تتصنع الصلاح!

تردد الحارس قليلًا، ثم دخل يستأذن.

ثم خرج طبيب القصر، فأخذ الدواء وتأمله مليًا، ثم هتف به كأنما يحمل جوهرة:

"هذا ترياق نادر!"

وما لبث أن عاد إلى الداخل حتى خرج أمين شؤون القصر ناظم الكرخي، وقال لليان باحترام:

"يا مولاتي، لقد تعاطت المحظية مرجانة الدواء، وخف ما بها. ويقول السلطان إنك أحسنت، فارجعي لتستعدي للمبيت."

وظن ناظم أن الملكة ستفرح بهذا القول.

والحقيقة أن ليان لم تبد أدنى سرور.

يا لهذا الطاغية، ربما كان وجهه كخبز التنور الكبير.

المبيت، وكأنه منة يتفضل بها عليها.
Continue to read this book for free
Scan code to download App

Latest chapter

  • عروس الحرملك... التي قهرت الطاغية   الفصل30

    كانت كتف ليان مثبتة، ويدها مقبوضة.السلطان عاصم رجل في النهاية، وقوته كبيرة. إذا وقعت في يده، فلا تفكري بالفرار. قال: "يا حرس". بأمر واحد منه، اندفع الحرّاس إلى الداخل. قال: "اقبضوا على المغتالة". وإذ هم يوشكون على الإمساك بها، رفعت ليان ركبتها أولًا، مستهدفة أسفل عاصم. انحرف عاصم إلى الجانب، وضاعف ضغط يده القابضة على كتفها. ومبارزة السادة لا تحتمل ذرة تهاون. وما إن خفّ ضغطه قليلًا حتى كسرت ليان قيده، وخطفت نطاق سرواله من عند الخصر… هووف. في لحظة، أدارت الحراسات رؤوسهم غريزيًا لئلا يروا انكشاف السلطان. وفي تلك اللمحة أفرغ عاصم يدًا بسرعة، وأمسك بالسروال مانعًا انزلاقه. لكن وبسبب حفظه لكرامته بهذه الحركة أفلت قبضته تمامًا، ولم يبق إلا يد واحدة تمسك ليان. كما تعجز قبضتان عن أربع أيد، فقبضة تعجز عن يدين أيضًا. وانزلقت ليان كسمكة لزجة مراوغة، ففلتت من تحكم يده الباقية. ثم اغتنمت ذهول الحرّاس وخوفهم من مساس المهابة، وقفزت من نافذة جانبية. كان تسلسلها انسيابيًا كالغمام، ولو ترددت حركة لفشلت في الفرار. أما الحرس الداخلون متأخرًا فلم يفهموا ما جرى، إنما أحسّوا ببرد يجتاح القاع

  • عروس الحرملك... التي قهرت الطاغية   الفصل29

    في منتصف الليل، في قصر النجوى. فشش سهم حاد استقر في إطار باب القاعة. في لحظة، انطلق الحرّاس جميعًا. قالوا: "هناك مغتال". القاعة الداخلية. كان عاصم يرتدي ثوب نوم من الديباج الموشى، وشعره الأسود منسدل كالشلال، يزيد وجهه وسامة فاتنة. قال: "ما الخبر؟" حمل لبيد السهم بكلتا يديه، وعلى رأسه رقعة، وتقدّم بحذر إلى الستارة. قال: "مولاي، هذا ما خلّفه المغتال". مدّ عاصم يده من داخل الستر، وأصابعه طويلة قوية. وتحت ضوء الشموع قرأ ما في الرقعة. مكتوب: "غدًا عند آخر الليل، قصر الشروق، لأجل علاج سمك". ضاقت حدقتا السلطان عاصم فجأة. ثم سحق الرقعة في يده حتى صارت فتاتًا. قال: "ما زالت تجرؤ على المجيء". يبدو أنها عرفت هويته، فأرسلت الرقعة مباشرة إلى قصر النجوى. لم يفهم لبيد المراد. قال في نفسه: "من تكون؟" أيعرف مولاي ذلك المغتال؟ … في مساء اليوم التالي. قصر الشروق. أحاط الحرس الخفي هذا القصر المهجور بطبقات من الطوق، ترقبًا لظهور المغتال. ما إن حان وقت آخر الليل، حتى دفعت باب القاعة امرأة في هيئة وصيفة ودخلت. فحاصروها على الفور. والغريب أن رد فعل المغتالة لم يكن الفرار… نظرت ليان

  • عروس الحرملك... التي قهرت الطاغية   الفصل28

    ظنّت مرجانة أنها أساءت السمع. كيف يمكن للسلطان أن يذهب إلى جنان؟ قال زاهر بعد ذلك. "الأمر يقين، للتو أرسل يقول لا تنتظري، فالسلطان سيتناول العشاء عند جنان." ساور مرجانة ضيق، فانعقد حاجباها قليلًا. لكنها ما لبثت أن قالت في نفسها إنه وإن تعشّى هناك فلن يعطف على جنان قطعًا. لا يجوز أن تربك صفوفها لأمر صغير فتكون أضحوكة لغيرها. اشتهر في القصور أن السلطان قصد جنان فعمّ الذهول. وكانت نهى أشد غضبًا فرمت في الحال صحنًا فكسرته. "منذ متى دخلت جنان القصر؟ وبأي حق تسبقني إلى الحظوة!" حاولت وصيفتها أن تلطف القول. "مولاتي، إنما ذهب السلطان إلى جنان، ويقال إن أباها نال فخر النصر، فلعل السلطان يُظهر سعة فضله." قطّبت نهى جبينها بغتة. "أتُراك ترين أن عمّتي كانت محقّة وأن الملكة هي من ساعدت جنان من وراء الستار؟" أجابت الوصيفة بتحفظ. "مولاتي، الأمر مشكل الحكم فيه." "ولكن الملكة نفسها محظور خروجها أفبيدها مثل هذه القدرة؟" عادت نهى تتردد. لو كان لها ذلك لألحت لنفسها لا لتجعل النفع لجنان. هي لا تصدق أن في الحريم امرأة لا تريد الحظوة. أسعد الناس تلك الليلة جنان. فمنذ زمن وهي في القصر وهذه

  • عروس الحرملك... التي قهرت الطاغية   الفصل27

    كانت جنان بين الدهشة والسرور، فمسحت دموعها سريعًا ونظرت إلى الخارج. ولما رأت ذلك المِصد الذهبي نسيت وجعها كأن جرحها قد اندمل. خمّنت الوصيفة إلى جوارها. "مولاتي، يُقال إن مولاي السلطان بعدما غادر قصر الوفاق قصد قاعة السمو، ولا بد أن مرجانة قالت فيه خيرًا فأتت هذه العطية؛ عليك أن تشكريها." هزّت جنان رأسها بقوة. "نعم، مرجانة أخت صادقة في وُدها لي، بخلاف تلك الملكة." وما إن ذُكرت الملكة حتى عاد الحقد يغلي في صدرها. هذا الثأر ستأخذه لا محالة. … قصر النجوى. القاعة العظمى ساكنة لا صوت فيها. في نصف الليل. … امتدت يد من الداخل فأزاحت ستر السرير بعصبية. تسللت أشعة القمر عبر شقوق الضوء إلى داخل الستر. جلس عاصم هناك ورداؤه الواسع مفتوح يكشف صدرًا ممشوقًا. وضع يده على جبهته يعرك ما بين حاجبيه بضيق. لم يستطع النوم. كان يعيد حديث قصر الوفاق في ذهنه. ليس صحيحًا. لقد همّ آنذاك أن يجلد وصيفات الملكة زجرًا لهن. فكيف انقطع الأمر بلا تتمة. في أي موضع استدرجته الملكة وأدرجته في قولها. منذ ذكرت أبَا جنان وإخوتها مضى معها في الحديث، بل تحققت صحّة ما سمته برسالة الأهل… وفي النهاية لم يع

  • عروس الحرملك... التي قهرت الطاغية   الفصل26

    رفعت ليان رأسها ببطء وعيناها هادئتان كبركة ميتة لا تموّج فيها. "مولاي السلطان، لقد زل لساني من قبل فأسخط المقام، وأنا منذئذ أحاسب نفسي ليلًا ونهارًا بذنوب معلقة، ولست أهلًا لخدمة المقام السلطاني." تلألأت عينا عاصم ببرودة عميقة تحمل خطرًا مكتومًا. "الملكة تعرف قدر نفسها." "هيئوا الموكب، إلى قاعة السمو." … بعد انصراف السلطان بدت لمياء كأنها انهارت تمامًا، فاتكأت مترنحة على حافة الطاولة. "مولاتي، لقد أفزعتِني حتى الموت…" ولما تأكدت أن لا أحد حولهما قالت لمياء بقلق تنصح. "مولاتي، لم يُدنِ السلطان جنان من وصاله، فإن كنتِ تريدين بها كسر انفراد مرجانة فقد أخفقتِ." "بل وأغضبتِ السلطان وزدتِ الشقاق مع مرجانة وجنان؛ أليس في ذلك جعلٌ لوضعنا أسوأ؟" لم ترَ ليان أنها خسرت. قالت بسكينة. "جنان قريبة من مرجانة ومن يقرب من الماء يسبق إلى الارتواء، فلو كان السلطان مائلًا إليها لكان قد آثرها منذ زمن." "آه؟ إذن أنتِ تعلمين أن السلطان لن يدنو من جنان ومع هذا رتبتِ لها مبيت الليلة؟" ثم قالت لمياء وقد خطر لها أمر آخر: "وأنتِ أيضًا تعلمين أنه لا يحب ذلك فأرسلتِها عمدًا إلى قصر النجوى، أليس كذلك؟"

  • عروس الحرملك... التي قهرت الطاغية   الفصل25

    كانت ليان تُقبَض على عنقها، وقد احمّرت ملامحها قليلًا. "هذه كلها مذكورة في رسالة أسرية …" قال السلطان عاصم: " رسالة أسرية؟" ولم يصدق. وأمرها أن تُخرج تلك الرسالة المزعومة. وخارجًا ذُهلت سلامة. من أين أتت تلك الرسالة؟ وما إن استدارت… يا ساتر، أفزعها ذلك! متى عادت لمياء يا ترى؟ ثم ما الذي تحمله في يدها؟ تجاوزت لمياء ذهول سلامة، وأسرعت إلى المخدع. قالت: "يا مولاي، هذه رسالة بعث بها السيد حسام اليوم." أرخى عاصم قبضته وتناولها ليتفحصها بنفسه. وكانت مكتوبة بلهجة أب إلى ابنته. وفيها: "روزان يا ابنتي، قلتِ من قبل إنك تريدين القيام بحق الملكة وأن تعدّي المحظيات أخوات فتُحسني إليهن، فسرّني ذلك. لهذا جمعتُ شيئًا من الأخبار لعلها تعينك…" وكان فيما بعد ذكرٌ لجنان ولغيرها من المحظيات. وأبرز ما فيه مواقيت دخولهن القصر، وصلات أهلهن، وميولهن. ومن سياق الكتاب يُرى حرص الملكة على شأن الحريم. كأنها حقًا تعدّهن أخوات وتريد معرفتهن. لما فرغ السلطان عاصم من القراءة بقي وجهه جليديًا. قال: "نِعْمَ الملكة أنتِ، أحسنتِ الإحاطة بكل شيء." ولم يكن ليُخدع، فأمر بمضاهاة الخط حالًا. وبينما ينتظر

More Chapters
Explore and read good novels for free
Free access to a vast number of good novels on GoodNovel app. Download the books you like and read anywhere & anytime.
Read books for free on the app
SCAN CODE TO READ ON APP
DMCA.com Protection Status